للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال أيضاً: أخبرني محمد بن علي الوراق أن محمداً بن أبي حرب حدثهم قال: سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه قال: يأمره. قلت: فإن لم يقبل؟ قال يجمع عليه الجيران ويهول عليه.

وقال أيضاً: أخبرني منصور بن الوليد أن جعفر بن محمد النسائي حدثهم قال: سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون. قال: هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم (١).

وقال الغزالي: إلا أن يظهر –المنكر- ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي، وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات بالمألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة (٢).

وقال ابن الجوزي: من تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، وإن فاحت رائحة الخمر فالأظهر جواز الإنكار (٣).

والقول الثاني أرجح وهو جواز التجسس ووجوب الإنكار على من جاهر بالمعصية؛ لأن النصوص الواردة في النهي عن التجسس خاصة بمن لم يجاهر بمعصيته، وأما من جاهر بمعصيته فإنه لا يشمله هذا التكريم؛ لأن فعل المجاهر ينتج عنه أمور تخالف قواعد الشرع ونوضح المسألة بما يأتي:

أولاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتستر وقال: ((كل أمتي معافى إلا المجاهرين)) (٤) فبفعله خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج من العافية.

ثانياً: إنه بفعله هذا يكون قد نزع الحياء الذي شرعه الإسلام للمسلمين ((الحياء لا يأتي إلا بخير)) (٥) ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) (٦).

ثالثاً: إن هذا المجاهر قد ينتج عن فعله هذا ترويج الفاحشة وفعل المنكرات في المجتمع المسلم، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، بل المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

رابعاً: وأما استدلالهم بخبر ابن مسعود -رضي الله عنه- (وأنه أتي برجل تقطر لحيته خمراً فقال: إنا قد نهينا عن التجسس ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (٧).

فهذا الخبر مردود عليهم من وجهين:

الوجه الأول: إن هذا الخبر يخالف صريح وصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم حيث حدث مثل هذه الصورة وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه.

فقد ورد عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قد شرب الخمر قال: (اضربوه) قال أبو هريرة: فمنا الضارب بنعله والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاه الله. قال: ((لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان)) (٨).

فإذا كان هذا في حق من قد شرب الخمر فما هو شأن من تقطر لحيته خمراً؟

الوجه الثاني: إن هذا الخبر لا ينفي أن ابن مسعود -رضي الله عنه- أقام الحد عليه أو أمر بإقامته.

فكان ابن مسعود يقول إننا لم نبحث عنه ولم نؤمر بالبحث عنه فلما أن ظهر لنا فعله فسوف نأخذ به. حيث قال ابن مسعود (ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به) (٩) وما أشد ظهور المنكر في هذه الصورة.

فمن هنا نقول في مشروعية الاحتساب على من جاهر بالمعصية. والله أعلم. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد العزيز بن أحمد المسعود – ص ٢١٦


(١) ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) الخلال (ص: ٦١) تحقيق عبد القادر أحمد عطا.
(٢) ((إحياء علوم الدين)) (٣ – ٧/ ٣٧).
(٣) ((غذاء الألباب)) السفاريني (١/ ٢٦٢).
(٤) جزء من حديث رواه البخاري (٦٠٦٩).
(٥) رواه البخاري (٦١١٧)، ومسلم (٣٧). من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
(٦) رواه البخاري (٣٤٨٤). من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه.
(٧) رواه أبو داود (٤٨٩٠)، والبيهقي (٨/ ٣٣٤) (١٨٠٨١)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (١٠/ ٢٣٢)، وابن أبي شيبة (٩/ ٨٦). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (٥٠٨): إسناده على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).
(٨) رواه البخاري (٦٧٧٧).
(٩) رواه أبو داود (٤٨٩٠)، والبيهقي (٨/ ٣٣٤) (١٨٠٨١)، وعبد الرزاق في ((المصنف)) (١٠/ ٢٣٢)، وابن أبي شيبة (٩/ ٨٦). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال النووي في ((رياض الصالحين)) (٥٠٨): إسناده على شرط الشيخين، وصحح إسناده الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)).

<<  <  ج: ص:  >  >>