للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولا يقف الأمر عند نزول العذاب بسبب ترك الناس الآخرين فيما هم فيه من المنكرات والمعاصي, بل إن الله تعالى لا يستجيب دعاءهم إذا دعوه لكشف العذاب عنهم. فقد روى الإمام الترمذي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده, فتدعونه فلا يستجيب لكم)) (١).

كل هذا يؤكد أن قول القائل: (علينا أن نهتم بأنفسنا لأنه لا يضرنا ضلال الآخرين) يخالف نصوص الكتاب والسنة.

احتجاج أصحاب الشبهة بحديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه:

قد يحتج محتج فيقول: إن ما فسرت به الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا يتفق مع ما جاء في تفسيرها في حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه من سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقد روى الإمام أبو داود عن أبي أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة – رضي الله عنه – فقلت: يا أبا ثعلبة! كيف تقول في هذه الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ؟

قال: أما والله! لقد سألت عنها خبيراً. سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك – يعني بنفسك – ودع عنك العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبض على الجمر. للعامل فيهم أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله)).

وزادني غيره قال: يا رسول الله! أجر خمسين منهم؟

قال: ((أجر خمسين منكم)) (٢).

الرد على الاحتجاج:

نرد بعون الله تعالى على احتجاج هؤلاء بحديث أبي ثعلبة رضي الله عنه من وجهين:

أولا: تحدث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الشريف عن الأحوال الاستثنائية التي يؤجر العامل فيها أجر خمسين رجلاً من الصحابة، وذلك لشدتها، ومن المعلوم أن للظروف والأحوال الطارئة أحكامها ورخصها، ولا تثبت بها معارضة ما ثبت لعامة الأحوال من الأحكام. وفي هذا الصدد يقول الإمام أبو بكر بن العربي بعد ذكر حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه:

(وذلك لعدم الاستطاعة على معارضة الخلق، والخوف على النفس أو المال من القيام بالحق. وتلك رخصة من الله عز وجل يسرها علينا، وفضله العميم آتانا) (٣).

ثانياً: هذه الرخصة التي نجدها في الحديث الشريف لا تدل على سقوط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في الظروف الاستثنائية، وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر درجات. فإذا تعذر للمسلم القيام به باليد واللسان فعليه أن يقوم به بالقلب، وهذا لا يسقط في حال من الأحوال. وفي هذا يقول الإمام أبو بكر الجصاص:

(وهذا لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر، لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة، وفرض النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام: ((فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) (٤).

فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره. وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان، قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل: ١٠٦] فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٥).

فخلاصة الكلام أنه ليس في الآية: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ولا في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه ما يدل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بل يجب على كل مسلم أن يقوم به على قدر استطاعته. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي - بتصرف– ص: ١٣


(١) رواه الترمذي (٢١٦٩)، وأحمد (٥/ ٣٩١) (٢٣٣٧٥). قال الترمذي: حسن، وقال البغوي في ((شرح السنة)) (٧/ ٣٥٧): حسن إنما نعرفه من حديث عمرو بن أبي عمر، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٤/ ٤٨٤) كما أشار إلى ذلك في مقدمته، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (٤/ ٣٥٨): إسناده جيد، وقال أحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (١/ ٧١٥): إسناده صحيح، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(٢) رواه أبو داود (٤٣٤١)، والترمذي (٣٠٥٨)، وابن ماجه (٨٠١). والحديث سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وصححه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (٣/ ٢١٢).
(٣) ((أحكام القرآن)) (٢/ ٧١٠).
(٤) رواه مسلم (٤٩). من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(٥) ((أحكام القرآن)) (٢/ ٤٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>