للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبينه الإمام النووي بأسلوب آخر فقال: (قال العلماء: ولا يشترط في الآمر والناهي أن يكون كامل الحال ممتثلاً ما يأمر به مجتنباً ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلا بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه، فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخرة) (١).

ثالثا: الأخذ بهذا القول يؤدي إلى تعطيل الاحتساب:

لو اشترطنا للأمر والناهي أن يكون فاعلاً لكل ما أمر به ومجتنباً كل ما نهي عنه لن نجد من يقوم بالاحتساب، وبهذا يتعطل هذا الواجب العظيم. وقد نبه علماء الأمة –جزاهم الله تعالى خيرا- إلى هذا الأمر، فقد قال سعيد بن جبير: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف بمعروف ولا نهى عن منكر) (٢).

وقال الإمام مالك تعليقاً على قوله: (وصدق، ومن ذا الذي ليس فيه شيء؟) (٣).

وذكر القرطبي أن الحسن قال لمطرف بن عبد الله: (عظ أصحابك). فقال: (إني أخاف أن أقول ما لا أفعل)، قال: (يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا، فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر) (٤).

وبين هذا الإمام الطبري حيث يقول: (وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وصمة، فإن أراد أنه الأولى فجيد، وإلا فيستلزم سد باب الأمر بالمعروف إذا لم يكن هناك غيره) (٥).

رابعاً: عدم جدوى احتساب غير الكامل ليس بأمر دائم:

لا شك أن دعوة الكامل أشد وقعاً في النفوس وأكثر استجابة من دعوة غير الملتزم لكن القول بأن دعوة غير الكامل أو احتسابه عديم الجدوى دائما غير صحيح.

كم من أنبياء الله الكاملين الملتزمين لم تؤثر دعوتهم في أقرب أقاربهم. لم يستجب لنداء رسول الله نوح عليه السلام ابنه، كما لم يستفد من دعوة خليل الله إبراهيم عليه السلام أبوه، ولم تقبل قول نبي الله لوط عليه السلام زوجته، كما لم يحول نصح أكمل خلق الله تعالى محمد صلى الله عليه وسلم ووعظه عمه أبا طالب إلى الإسلام.

وكم من أنبياء الله الكاملين دعوا أقوامهم فما آمن معهم إلا قليل، بل منهم من لم يؤمن به أحد.

وعلى عكس هذا كم من أصحاب الدعوات الفاسدة – المخالفين لأقوالهم بأفعالهم – نرى لهم أتباعا كثيرين! وكم من دعاة حرمة الإنسان وحريته يجدون أنصاراً كثيرين مع أنهم من أشد الناس انتهاكاً لحرمته وحريته! وكم من حماة لحقوق العمال والشعوب – على حسب زعمهم – ولهم أتباع كثيرون رغم كونهم من أكثر الناس هضماً لحقوقهم!

فخلاصة القول ليس لأحد أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أن احتسابه لا يفيد بسبب تقصيره فلربما يفيد المقصر حيث لا يفيد فيه من هو أحسن منه حالاً.

تنبيه:

لا يفهم بما ذكر بأننا لا نرى بأسا من ترك المعروف وفعل المنكر للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بل نؤكد أنه يجب عليه فعل المعروف وترك المنكر، وأنه يعرض نفسه لغضب الله تعالى عند التساهل في هذا. ونقرر أيضاً بأنه ينبغي أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه كما كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم.

غاية ما في الأمر أن فعل المعروف وترك المنكر ليس شرطاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يقال لمن أمر بالمعروف ولم يفعله أو نهى عن المنكر وفعله: (لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر)، بل نقول له: (استمر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتق الله تعالى في نفسك فمرها بالمعروف وانهها عن المنكر). والله تعالى أعلم بالصواب. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي- بتصرف– ص: ٢٠


(١) ((شرح النووي على صحيح مسلم)) (٢/ ٢٣)، وانظر أيضاً ((التفسير الكبير)) (٣/ ٤٧)، و ((تفسير البيضاوي)) (١/ ١٥٠)، و ((تفسير أبي السعود)) (١/ ٩٧)، و ((تفسير السراج المنير)) (١/ ٥٥).
(٢) نقلا عن ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٦٧ - ٣٦٨).
(٣) نقلا عن ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٦٨).
(٤) نقلا عن ((تفسير القرطبي)) (١/ ٣٦٧).
(٥) نقلا عن ((فتح الباري)) (١٣/ ٥٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>