للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ [التوبة: ٤٩].

ثم يقول الإمام الطبري في تفسير الآية: (أي: إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم) (١).

وهكذا من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة طلب السلامة من فتنة لم تقع بعد، قد وقع في فتنة كبرى، ألا وهي ترك ما أوجبه الله تعالى عليه من الاحتساب.

ثالثاً: تعارض هذا القول مع وصية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:

يتنافى هذا القول مع ما أوصى به النبي الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه من قول الحق، وأن لا يخافوا في الله لومة لائم، وأن لا يمنعهم خوف على النفس, أو الرزق من القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن تلك الأحاديث – على سبيل المثال – ما روى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يمنعن رجلاً منكم مخافة الناس أن يتكلم بالحق إذا رآه وعلمه)) (٢).

وفي رواية أخرى: ((فإنه لا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو يذكر بعظيم)) (٣).

فأين أصحاب هذه الشبهة من هذا الحديث الشريف ومن الأحاديث الأخرى مثلها؟

رابعاً: منافاة هذا القول لسيرة الأنبياء والصالحين:

أين أصحاب هذه الشبهة من سيرة الأنبياء والمرسلين والصالحين الذين عذبوا، وأخرجوا من ديارهم، وقوتلوا، وقتلوا بسبب قيامهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أين هم من رجال هذه الأمة الذين تحققت فيهم – بفضل الله تعالى – بشرى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه- ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله؟)) (٤).

تنبيه:

لا يفهم مما كتبنا أنه لا ينظر إلى ما يترتب على القيام بالاحتساب ولا يعبأ به، بل إن هذا سيحسب له حسابه. فإن كانت المفسدة المترتبة عليه أعظم من المصلحة المتوقعة لا يقوم المرء بالاحتساب آنذاك، وإن كانت المصلحة المرجوة أعظم من المفسدة يجب عليه أن يقوم بالاحتساب إذاً. وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات أو المستحبات لابد أن تكون المصلحة فيها راجحة على المفسدة، فحيث كانت مفسدة الأمر والنهي أعظم من مصلحته، لم يكن مما أمر الله به، وإن كانت قد ترك واجب وفعل محرم) (٥).

لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد ليس بهوى الناس بل – كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – (هو بميزان الشريعة) (٦).

ولا يعني كلامنا أيضاً أن نفرط بأنفسنا في الاحتساب، وأن نلقي بأيدينا إلى التهلكة. إن الذي نقصده أن لا يكون الخوف على النفس أو الرزق مانعاً من الاحتساب، ولكن أخذ الحيطة والحذر أمر مطلوب مثل ما هو الحال في الجهاد بالسيف. وفي هذا يقول الشيخ محمد رشيد رضا: (ولا نترك الدعوة إلى الخير ولا الجهاد دونه خوفاً على أنفسنا حرصاً على الحياة الدنيا، ولا نفرط بأنفسنا في أثناء دعوتنا وجهادنا فيما لا تتوقف الدعوة ولا حمايتها عليه. وقد يكون أكثر ما يصيب الداعي إلى الخير من الأذى ناشئاً عن طريقة الدعوة وكيفية سوقها إلى المدعو، لاسيما إذا كان مسلماً، وكانت الدعوة مؤيدة بالكتاب والسنة) (٧).

والله أعلم بالصواب. شبهات حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لفضل إلهي -بتصرف– ص: ٢٥


(١) ((تفسير الطبري)) (١٤/ ٢٨٧).
(٢) رواه أحمد (٣/ ٤٤) (١١٤٢١)، وأبو يعلى (٢/ ٤١٩) (١٢١٢)، وابن حبان (١/ ٥٠٩) (٢٧٥)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (٣/ ٩٩). والحديث صحح إسناده ابن حجر على شرط مسلم في ((الأمالي المطلقة)) (١٦٣).
(٣) رواه أبو يعلى (٢/ ٥٣٦) (١٤١١)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (٣/ ١٦٢) (٢٨٠٤). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٢/ ٢٦٨): رواه الطبراني في ((الأوسط)) ورجاله رجال الصحيح غير شيخ الطبراني، وقال في (٧/ ٢٧٥): رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح، وقال ابن حجر في ((الأمالي المطلقة)) (١٦٥): رجاله رجال مسلم لكن في سماع الحسن من أبي سعيد نظر.
(٤) رواه الحاكم في ((المستدرك)) (٣/ ٢١٥)، والخطيب البغدادي في ((تاريخ بغداد) (٦/ ٣٧٦). من حديث جابر رضي الله عنه. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الشوكاني في ((در السحابة)) (ص: ٢٦٣): في إسناده حكيم بن زيد قال الأزدي: فيه نظر، وبقية رجاله ثقات، والحديث صححه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (ص: ٣٧٤).
(٥) كتاب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: ١٧) باختصار.
(٦) كتاب ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: ٢١).
(٧) ((تفسير المنار)) (٤/ ٣٢ - ٣٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>