وهذه المسألة كما هو ظاهر مسألة المسح على الخفين هي من مسائل الفقه لا من مسائل العقيدة؛ ولكن أُدْخِلَتْ في مسائل الاعتقاد لأجل أنَّ أهل السنة تميَّزُوا عن عدد من الفرق بأنَّهُمْ يرون المسح على الخفين، والمخالف في ذلك هم الخوارج -أعني طائفةً منهم- والرافضة وعدد من الناس مختلفون في أماكنهم لا يُنْسَبُونَ إلى فرقة من الفرق.
فلأجل مخالفة تلك الفرق صارت المسألة من المسائل العقدية؛ لأنَّهَا تُمَيِّزْ أهل العقيدة الحقة من الفرق الباطلة، فصارت هذه المسألة وهي المسح على الخفين صارت عَلَمَاً يُفَرَّقُ به ما بين السني وما بين الرافضي والخارجي ونحوهما.
ولهذا فإنَّ مسائل الاعتقاد أعني المسائل التي تُذْكَرْ في العقيدة في مصنفات أهل السنة في الماضي وفي الحاضر على أقسام منها:
القسم الأول: ما هو في بيان الأركان الستة.
القسم الثاني: ما تميَّز به أهل السنة عن غيرهم في مسائل المعاملة؛ معاملة ولاة الأمر أو معاملة المبتدع أو معاملة العصاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو التعامل مع صحابة رسول الله? وزوجاته? وهكذا.
وأمَّا المسح على الجوارب فليس كذلك؛ لأنَّهُ نُقِلَ عن نحو سبعة أو ثمانية من الصحابة أو أكثر بقليل، ولهذا المسح على الجوربين فيه خلافٌ فقهي معروف عند أهل السنة.
أما المسح على الخفين فهو أصل من الأصول العظيمة في العمل؛ لأنَّ النبي تواتَرَ عنه المسح وفَعَلَهُ صحابته وتواتر عنهم ونقلوه نقلاً قولياً وعملياً.
والآثار في مسحه على الخفين في أسفاره وفي الحضر أيضاً، كما قال ((يمسح المقيم يوما وليلة، ويمسح المسافر ثلاثة أيام بلياليهن)) (١)، فهذا معنى قوله في السفر والحضر؛ لأنَّ السُّنَّةَ ماضية في هذا وهذا.
المسألة الثالثة:
مما أُسْتُدِلَّ به على المسح على الخفين من القرآن قوله: في آية الوضوء يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:٦]، اسْتُدِلَّ به على أنَّ المسح هنا -مسح الأرجل- يُرَادُ به المسح على الخفين، والقراءة هكذا بالجر هي أحد القراءتين السبعيَّتَين، هاهنا قراءتان:
القراءة الأولى وَأَرْجُلَكُمْ بنصب الأرْجُل عطفاً على المغسولات.
والثانية وَأَرْجُلِكُمْ عَطْفَاً على الرأس عند أصحاب هذا القول؛ يعني فتكون مجرورة.
وهذا الاستدلال فيه نظر، وإن كان محلُّهُ كتب الفقه؛ لكن من باب الاستطراد نذكره، فيه نظر لأنَّ المسح على الخفين لا يكون إلى الكعبين، وإنما يَمْسَحُ ظاهر الخف على ظاهر القدم، وليست السُّنَّة أن تُسْتَوعَبْ الرجل مسحاً إلى الكعبين، ولهذا صار القول الظاهر في الآية على قراءة الجر أنَّ لها توجيهين:
(التوجيه الأول: أن يكون هذا الجر لأجل المجاورة، والجر بالمجاورة أسلوب عربي معروف كثير الاستعمال، ومنه قول الله إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ [هود: ٢٦]، مع أنَّ الألم وصف للعذاب، وأما اليوم فهو ظرف ولا يُوصف اليوم بأنه مؤلم أو ليس بمؤلم، ولهذا صار الظاهر هنا في هذه الآية أنَّ معناها إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم، يعني عذاباً أليماً في يوم، كما هو القول الأظهر من قولي العلماء هنا.
وجُرَّ هنا لأجل المجاورة فهي أسهل في اللفظ ولأجل الختام قال عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ، وأما في لغة العرب فهو كثير معروف ومنه قول الشاعر:
فظلّ طُهَاةُ اللحم ما بين مُنْضِجٍ خفيفاً شواءٍ أو قَدِيرٍ مُعَجَّلِ
(ما بين منضج خفيفاً شواء)؛ لأنها مفعول لاسم الفاعل.
(١) [١٤٢٥٣])) رواه مسلم (٢٧٦) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.