للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما قولهم: إنهم لو كانوا أجساماً لطيفة لتمزقوا عند هبوب الرياح والعواصف فجوابه: لقد ثبت عند الفلاسفة أن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد وتخرج من الجانب الآخر، فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة؟!، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها, فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها (١) وقد ثبت تسخيرهم للنبي سليمان عليه السلام بصريح القرآن، وقد كان يراهم على صورهم الأصلية كما دل عليه ظاهر القرآن.

٢ - أن هذه الأشخاص المسماة بالجن لو كانوا حاضرين في هذا العالم، مخالطين للبشر، فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة, وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضاد بسبب تلك العداوة، إلا أننا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة (٢).

والجواب على هذه الشبهة: أنه لا يشترط أن يحصل للإنسان من مصاحبة أحد صداقة أو عداوة يترتب عليهما المنافع والمضار، ومع ذلك فإن الوقائع الصحيحة التي وردت في السنة تدل على أن بعض الجن قد حصل منهم إيذاء لبعض من يكرهونه من الأنس، وقد ثبت علاج الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض من صرعتهم الجن، وقد ثبت كذلك نفع الجن لبعض الإنس كما حصل مع أبي هريرة عندما جاءه الشيطان فجعل يحثو من الطعام وقد تكرر مجيئه ثلاث مرات، وكان يزعم أنه لا يعود، حتى همَّ أبو هريرة أن يرفع أمره للرسول صلى الله عليه وسلم، فقال الشيطان عند ذلك: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها، فعلمه آية الكرسي وقال له: اقرأها فإنه لا يقربك شيطان (٣) , وغير ذلك مما قد ثبت في نفع الجن لبعض الناس وإضرارهم لبعض منهم.

٣ - إن الطريق إلى معرفة الجن إما الحس وإما المشاهدة وإما الدليل، ولم يثبت لنا بالحس وجودهم ورؤيتهم، والذين يقولون إنا أبصرناهم وسمعنا أصواتهم طائفة من المجانين يتخيلون ذلك، وليست في الحقيقة كذلك، وأما الخبر بواسطة الأنبياء عليهم السلام فباطل، لأن ذلك يؤدي إلى إبطال نبوتهم، ولجاز أن يقال إن كل ما أتى به الأنبياء من المعجزات إنما هو بإعانة الجن والشياطين، فإذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين؟ ولم لا يجوز أن يقال: إن الناقة تكلمت مع الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الشيطان دخل في باطنها فتكلمت؟ وأما الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين (٤).

والجواب على هذه الشبهة: أن الدليل الحسي قد دل على وجود الجن، حيث رآهم الرسول عليه الصلاة والسلام وهو نبي معصوم من الخطأ والكذب، ورآهم ابن مسعود عندما ذهب معه ليلة تكليم الجن، ورآهم أبو هريرة عندما جاءه الشيطان في صورة رجل فقير، فأخذ يحثو من مال الصدقة، وقد حدث مثل ذلك لنفر من الصحابة، وغير ذلك من الوقائع التي تدل على رؤية الجن من قبل هؤلاء، وهم صحابة أجلاء وليسوا من المجانين كما يزعم المنكرون لوجود الجن، بل هم من العقلاء الموثوق بهم.


(١) ((التفسير الكبير)) (١/ ٨٠).
(٢) ((التفسير الكبير)) (١/ ٧٧).
(٣) رواه البخاري (٢٣١١).
(٤) ((التفسير الكبير)) (١/ ٧٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>