للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد جاء من طرق هذا الحديث: ((ثم انطلق – أي ابن مسعود – حتى قام عليَّ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطاً وغمغمة، حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة، حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صلى الله عليه وسلم مع الفجر فقال: أنمت؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس، حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول: اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم، ثم قال: هل رأيت شيئاً؟ قلت: نعم رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض، فقال: أولئك جن نصيبين، سألوني المتاع، والمتاع الزاد .. )) الحديث (١).

وفي إحدى الروايات عن ابن مسعود جاء فيها: ( ... فلما أصبحت قلت: لأعلمن علماً حيث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذهبت، فرأيت موضع مبرك ستين بعيراً)، وذلك حين ذهب الرسول ليكلم نفراً من الجن. وفي هذا دلالة على أن الجن الذين كلمهم عليه الصلاة والسلام لهم أجسام، بحيث يمكن مشاهدتهم، فقد تركوا أثرا يدل على تشكلهم، وهي آثار مقاعدهم عندما كانوا مجتمعين حول الرسول عليه الصلاة والسلام.

وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: ((صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في مسجد المدينة فلما انصرف قال أيكم يتبعني إلى وفد الجن الليلة؟ فأسكت القوم فلم يتكلم منهم أحد, قال ذلك ثلاثاً فمر بي يمشي فأخذ بيدي فجعلت أمشي معه حتى خنست عنا جبال المدينة كلها وأفضينا إلى أرض براز, فإذا رجال طوال كأنهم الرماح مستثفري ثيابهم من بين أرجلهم, فلما رأيتهم غشيتني رعدة شديدة حتى ما تمسكني رجلاي من الفرق, فلما دنونا منهم خط لي رسول الله بإبهام رجله في الأرض خطاً فقال لي اقعد في وسطه فلما جلست ذهب عني كل شيء كنت أجده من ريبة, ومضى النبي صلى الله عليه وسلم بيني وبينهم فتلا قرآناً رفيعاً حتى طلع الفجر ثم أقبل حين مر بي فقال لي: الحق، فجعلت أمشي معه فمضينا غير بعيد فقال لي: التفت فانظر هل ترى حيث كان أولئك من أحد فقلت: يا رسول الله أرى سواداً كثيراً, فخفض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه إلى الأرض, فنظم عظماً بروثة ثم رمى به إليهم, ثم قال: رشد أولئك من وفد قوم هم وفد نصيبين, سألوني الزاد فجعلت لهم كل عظم وروثة, قال الزبير: فلا يحل لأحد أن يستنجي بعظم ولا روثة أبداً)) (٢).

وعندما قدم ابن مسعود الكوفة، رأى شيوخاً شمطاً من الزط فراعوه، قال: (من هؤلاء؟ قالوا: هؤلاء نفر من الأعاجم، قال: ما رأيت للذين قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجن شبهاً أدنى من هؤلاء) (٣).

فهذه الروايات تدعم قول القائلين بإمكانية رؤية الجن، فقد ظهروا لابن مسعود وغيره مرة في صورة النسور، ومرة في صورة الحجل، ومرة في صورة رجال سود، عليهم ثياب بيض. ورآهم ابن مسعود يجتمعون حول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرعهم بعصاه، ثم يتلو عليهم القرآن، ويطلبون منه الزاد فيزودهم العظم لهم، والروث لدوابهم.

وقد تكررت وفادات الجن على الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر الألوسي أنه كان للجن ست وفادات. وهذه الوفادات تدل على رؤية الجن من قبل ابن مسعود وغيره عند تكليم الرسول صلى الله عليه وسلم للجن ودعوتهم إلى الله.


(١) رواه الطبري في تفسيره (٢٢/ ١٣٧)، وأورده البغوي في تفسيره (٧/ ٢٦٧).
(٢) رواه الطبراني (١/ ١٢٥) (٢٥٢). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (١/ ٢١٤): إسناده حسن.
(٣) ((تفسير الطبري)) (٢٢/ ١٣٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>