للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبمثل قول الشافعي قال النحاس. ففي تفسير قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ٢٧]. قال القرطبي: (قال النحاس: مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ يدل على أن الجن لا يرون إلا في وقت نبي، ليكون ذلك دلالة على نبوته، لأن الله جل وعز خلقهم خلقاً لا يرون فيه، وإنما يرون إذا نقلوا عن صورهم، وذلك من المعجزات التي لا تكون إلا في وقت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم) (١).

وقال القرطبي: (قال القشيري: أجرى الله العادة بأن بني آدم لا يرون الشياطين اليوم) (٢).

ومن قال بالمنع ابن حزم الظاهري، فقد قال: (وهم يروننا ولا نراهم، قال الله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ٢٧] .. وإذ أخبرنا الله عز وجل أنا لا نراهم، فمن ادعى أنه يراهم أو رآهم فهو كاذب، إلا أن يكون نبياً من الأنبياء عليهم السلام، فذلك معجزة لهم، كما نص النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنه تفلت عليه الشيطان ليقطع عليه صلاته .. )) (٣)). ثم يقول: (ولا سبيل إلى وجود خبر يصح برؤية جني بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي منقطعات أو عمن لا خير فيه) (٤).

وقول ابن حزم إنما هو محمول على رؤيتهم بصورهم الأصلية، كما حمل قول الإمام الشافعي من قبل.

وروي عن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رؤية الجن ليست حقيقة، وإنما هي من باب التخييل.

فعن أسيد بن عمرو قال: (ذكرنا عند عمر الغيلان فقال: إنه لا يستطيع شيء أن يتحول عن خلق الله الذي خلقه، ولكن فيهم سحرة كسحرتكم، فإذا أحسستم من ذلك شيئاً فأذِّنوا) (٥).

وعلى قول عمر فإن ظهور الجن بالصور المختلفة ليس حقيقة، وإنما هو من باب التخييل، كتخييل السحرة على الرائين. ولكن الأدلة الصحيحة تثبت رؤيتهم حقيقة وليس تخييلاً، كما حصل مع أبي هريرة في الحديث المتقدم الذي أخرجه البخاري، عندما جاءه الشيطان على صورة رجل فقير ذي عيال، وغير ذلك من الأحاديث التي تثبت رؤيتهم حقيقة.

٣ - الفريق الثالث:

الذي ينكر حتى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للجن، فقد قال عبد الله النوري في جوابه على سؤال وجه إليه عن رؤية الرسول عليه السلام للجن: (لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الجن بعينيه، وإنما أوحي إليه أن نفراً من الجن استمع إليه، قال تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن: ١]).

وهو لا يثبت الرؤية إلا للنبي سليمان عليه السلام، كما ورد في الآيات التي تبين تسخير الجن له.

وعلى هذا فهو يخالف كل الآراء التي تجمع على رؤية النبي عليه السلام للجن، وأما بالنسبة للآية التي ذكرها، فقد كانت إخباراً من الله لنبيه بأن نفراً من الجن استمعوا إليه، وهي تشعر بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرهم في هذه المرة، ولكن وفادات الجن على الرسول عليه السلام قد تكررت عدة مرات، رآهم فيها، ...


(١) ((تفسير القرطبي)) (٧/ ١٨٦).
(٢) ((تفسير القرطبي)) (٧/ ١٨٦).
(٣) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (٥/ ١٢).
(٤) ((الفصل في الملل والأهواء والنحل)) (٥/ ١٣).
(٥) رواه عبدالرزاق (٥/ ١٦٢)، وابن أبي شيبة (٦/ ٩٤). قال ابن حجر في ((فتح الباري)) (٦/ ٣٩٦): إسناده صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>