(قال ابن رشد: جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة، قاله في المدونة، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى، لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن أحد من السلف، والصحابة المرضيين، وهو من محدثات الأمور ... انتهى). فمثل هذا إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر فيقال في مثله: إنه من كبار البدع. كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها، بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة.
والثاني: أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة، وإلى جزئية، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً في الشريعة، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين، وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعاً من فروع الشريعة دون فرع، بل نجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية، أو يكون الخلل الواقع جزئياً، وإنما يأتي في بعض الفروع دون بعض، كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك: التثويب ضلال، وبدعة الأذان والإقامة في العيدين، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين، وما أشبه ذلك. فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها (١).
فالقسم الأول: أعني البدعة الكلية، لاشك أنها من الكبائر, ويكون ما عدا ذلك - أي الجزئية - من قبيل اللمم أي الصغائر التي يرجى فيها العفو, وهذا كله مع عدم الإصرار.
والثالث: أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي – على مقتضى الأدلة المتقدمة – ونوع من أنواعها، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضاً، ولا نخصص وجوهاً بتعميم الدخول في الكبائر، لأن ذلك تخصيص من غير مخصص، ولو كان ذلك معتبراً لاستثنى من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها.
وإذا قلنا إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط:
أحدها: أن لا يداوم عليها، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه، لأن ذلك ناشئ عن الإصرار عليها، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة، ولذلك قالوا: لا صغيرة مع إصرار, ولا كبيرة مع استغفار. فكذلك البدعة من غير فرق، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها، وقد لا يصر عليها، وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطة الشاهد بها أو عدمه، بخلاف البدعة فإن شأنها المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها، وأن تقوم على تاركها القيامة، وتنطلق عليه ألسنة الملامة. ويرمى بالتسفيه والتجهيل، وينبز بالتبديع والتضليل، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة، والمقتدى بهم من الأئمة. والدليل على ذلك: الاعتبار والنقل, فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار، ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى.