للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومما يبين عمق الفهم، وسرعة التفاعل مع الصفات التي أثرت في إيمان وحياة الصحابة رضوان الله عليهم، ما رواه البخاري ومسلم في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه، والله لا أنفق على مسطح شيئاً بعد ما قاله لعائشة، فأنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [النور:٢٢] فقال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح الذي كان يجري عليه)) (١).

وهكذا لو بحثنا عن مواقف الصحابة لوجدناها قد ألمت إلماماً كبيراً في الصفات ومعانيها, وظهرت آثارها على حياتهم وجميع تصرفاتهم, ولعل الوقائع العظيمة من الغزوات التي غزاها الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والآيات التي نزلت بشأنها والتي تنتهي تعقيباتها بالصفات الإلهية, هي من هذا الجانب الذي نرى أنها هيمنت عليه, فكانوا بأعلى درجات الفهم والإيمان واليقين, وعندما تجلى هذا الجانب في تصوراتهم بهذه الضخامة والشمول استغنوا عن السؤال والبحث والتنقير عنه، ومع ضخامة هذا العرض وشموليته في القرآن والسنة فقد غشيت أبصار المبتدعة عنه تماماً, وقاموا بالبحث والتنقير على غير الهدى الرباني, وفتحوا أبواب الشرور على الأمة في أخص مسائل الألوهية, وهي مسائل الصفات التي حسمت مادة الاعتقاد بها على الصورة التي وقف عندها الصحابة, والتابعون, وتابعوهم الذين يمتدح طريقتهم الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله فيقول: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافد قد كفوا، وإنهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، ولقد تكلموا منه بما يكفي, ووصفوا منه ما يشفي, فما دونه مقصر, وما فوقهم مجسر, لقد قصر عنهم قوم فجفوا, وطمح آخرون عنهم فغلوا, وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم) (٢). وكانوا – رضوان الله عليهم- يكرهون التعمق والتكلف؛ فقد روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كنا عند عمر، فقال: نهينا عن التكلف)) (٣) فإذا كان عمر رضي الله عنه يروي النهي عن التكلف فمن باب أولى أن ينتهوا عن الخوض في الصفات بما لا يحل, وإنما وقفوا عند الحد الذي وقف عنده الكتاب والسنة بعيداً عن القول بالوصف والكيفية، أو النفي والتعطيل.


(١) رواه البخاري (٢٦٦١)، ومسلم (٢٧٧٠).
(٢) رواه عبدالله بن أحمد في ((زوائد الزهد)) (ص: ٢٩٦)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (٥/ ٣٣٨، ٣٣٩).
(٣) رواه البخاري (٧٢٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>