للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا مقياس عقلي يلي المقياس السابق في الرتبة. فإذا دل العقل على إثبات جنس الكمال لله تعالى وآحاده وأفراده، فإن قياس الأولى يقضي بأن ما ثبت من الكمالات ثبوتاً عاماً للخالق والمخلوق فإن لله تعالى أكمله وأعظمه ليس له فيه مكافئ ولا نظير، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ [النحل: ٦٠]، وقال تعالى: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [٢٧: الروم]. فلما كانت الألفاظ الدالة على الصفات تحمل معاني مشتركة باعتبار أصل المعنى، كان لابد من القياس. والقياس الصحيح هنا هو قياس الأولى، وهو طريقة السلف التي وافقوا بها القرآن. قال شارح الطحاوية: (ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها ..

ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ، مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالا للوجود غير مستلزم للعدم بوجه، فالواجب القديم أولى به. وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر، فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه. وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى) (١).

ويبين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مدى هذه الأولوية في قياس الأولى، ومقدار ذلك التفاضل المندرج تحت ذلك المعنى العام المشترك فيقول: (وأما قياس الأولى الذي كان يسلكه السلف اتباعاً للقرآن، فيدل على أنه يثبت له من صفات الكمال التي لا نقص فيها أكمل مما علموه ثابتاً لغيره، مع التفاوت الذي لا يضبطه العقل كما لا يضبط التفاوت بين الخالق وبين المخلوق. بل إذا كان العقل يدرك من التفاضل الذي بين مخلوق ومخلوق ما لا ينحصر قدره، وهو يعلم أن فضل الله على كل مخلوق أعظم من فضل مخلوق على مخلوق كان هذا مما يبين له أن ما يثبت للرب أعظم من كل ما يثبت لكل ما سواه بما لا يدرك قدره. فكان قياس الأولى يفيده أمراً يختص به الرب مع علمه بجنس ذلك الأمر) (٢).

نفي الصفة إثبات لنقيضها:

قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وهذه الطريقة هي من أعظم الطرق في إثبات الصفات، وكان السلف يحتجون بها، ويثبتون أن من عبد إلهاً لا يسمع, ولا يبصر, ولا يتكلم فقد عبد رباً ناقصاً, معيباً, مؤوفاً) (٣).

ومن أمثلة احتجاج السلف بهذه الطريقة العقلية قول الإمام الدارمي في رده على المريسي: (وكيف استجزت أن تسمي أهل السنة وأهل المعرفة بصفات الله المقدسة: مشبهة، إذا وصفوا الله بما وصف به نفسه في كلامه بالأشياء التي أسماؤها موجودة في صفات بني آدم بلا تكييف.


(١) ((شرح العقيدة الطحاوية)) ص (١٢٢).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٩/ ١٤٥).
(٣) ((درء تعارض العقل والنقل)) (٢/ ٢٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>