للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم بعد هذا الاستفصال يمتنع التلازم المزعوم من أن حدوث الصفة حدوث للموصوف، بل نقول إن تعلق بعض الصفات الفعلية بمشيئته وحكمته دليل كمال عقلاً وشرعاً. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في معرض مناقشته لهذه الشبهة: ( .. إذا قدر ذات تفعل شيئاً بعد شيء وهي قادرة على الفعل بنفسها، وذات لا يمكنها أن تفعل بنفسها شيئاً، بل هي كالجماد الذي لا يمكنه أن يتحرك كانت الأولى أكمل من الثانية. فعدم هذه الأفعال نقص بالضرورة، وأما وجودها بحسب الإمكان فهو الكمال. ويقال: لا نسلم أن عدم هذه مطلقاً نقص ولا كمال، ولا وجودها مطلقاً نقص ولا كمال؛ بل وجودها في الوقت الذي اقتضت مشيئته وقدرته وحكمته، هو الكمال، ووجودها بدون ذلك نقص، وعدمها مع اقتضاء الحكمة عدمها كمال، ووجودها حيث اقتضت الحكمة وجودها هو الكمال) (١).

وقبل أن نختم هذا المبحث نشير إلى سمة بارزة في المنهج العقلي الصحيح، ألا وهي الاطراد، والتسوية بين المتماثلات، والتفريق بين المختلفات، بل هي حقيقة العدل والميزان الذي ينبغي أن يدل عليه العقل.

وبالمقابل فإن المناهج العقلية الباطلة يعتريها التناقض والاضطراب وعدم طرد القاعدة على جميع أجزائها. وفيما يلي مثال بديع يصور هذه السمة في المنهجين:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فإذا كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، قدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة، وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً، ويفسره إما بالإرادة، وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات.

قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته. بل القول في أحدهما كالقول في الآخر، فإن قلت إن إرادته مثل إرادة المخلوقين، فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به. قيل لك: وكذلك له محبة تليق به, وللمخلوق محبة تليق به، وله رضا وغضب يليق به، وللمخلوق رضا وغضب يليق به.

وإن قال: الغضب غليان القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أودفع مضرة. فإن قلت هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق .. فإن قال: تلك الصفات أثبتها بالعقل، لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة. والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام، أو ضد ذلك ...

يقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبت به تلك من العقليات. فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة, كدلالة التخصيص على المشيئة. وإكرام الطائعين يدل على محبتهم، وعقاب الكفار يدل على بغضهم.

فما أعظم المنة بهذا العقل حين يستنير بنور الإيمان، ويهتدي بهداه، ويعتصم بدلالته، ويحفظ حدوده، فيعمل فيما خلق له، متفكراً متدبراً، فيكون صاحبه من (أولي الألباب).

وما أعظم البلية بذلك العقل حين يسرح بلا قيد ولا شرط, فيضرب في التيه بغر هدى، ويتخبط في الظلمات، تتناوشه وساوس شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً, فيكون صاحبه من (الضالين) (٢). مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد عبدالرحمن القاضي -ص٤٨٧


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٦/ ١٠٧ - ١٠٨).
(٢) ((التدمرية باختصار)) (٣١ - ٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>