للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واحتجوا بقوله تعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: ٧] وقوله: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: ٨٨] وقوله: مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ [الملك: ٣]، والعارف عندهم هو الذي يصرح بإطلاق الجمال، ولا يرى في الوجود قبيحاً، وهؤلاء قد عدمت الغيرة لله من قلوبهم، والبغض في الله، والمعاداة فيه، وإنكار المنكر، والجهاد في سبيله وإقامة حدوده، ويرى جمال الصور من الذكور والإناث من الجمال الذي يحبه الله فيتعبدون بفسقهم فيها، وإن كان اتحادياً قال: هي مظهر من مظاهر الحق، ويسميها المظاهر الجميلة.

وقابلهم الفريق الثاني فقالوا: قد ذم الله سبحانه جمال الصور، وتمام القامة والخلقة، فقال عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون: ٤] وقال: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا [مريم: ٧٤] أي أموالاً ومناظر. قال الحسن: هو الصور.

وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)) (١). قالوا: ومعلوم أنه لم ينف نظر الإدراك، وإنما نفى نظر المحبة. قالوا: وقد حرم علينا لباس الحرير والذهب وآنية الذهب والفضة، وذلك من أعظم جمال الدنيا، وقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [طه: ١٣١] وفي الحديث: ((البذاذة من الإيمان)) (٢). وقد ذم الله المسرفين، والسرف كما يكون في الطعام والشراب يكون في اللباس. وفصل النزاع أن يقال: الجمال في الصورة واللباس والهيئة ثلاثة أنواع: منه ما يحمد ومنه ما يذم، ومنه ما لا يتعلق به مدح ولا ذم. فالمحمود منه ما كان لله وأعان على طاعة الله، وتنفيذ أوامره، والاستجابة له، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود. وهو نظير لباس آلة الحرب للقتال ولباس الحرير في الحرب والخيلاء فيه، فإن ذلك محموداً إذا تضمن إعلاء لكلمة الله، ونصر دينه، وغيظ عدوه، والمذموم منه ما كان للدنيا والرئاسة والفخر والخيلاء والتوسل إلى الشهوات، وأن يكون هو غاية العبد وأقصى مطلبه. فإن كثيراً من النفوس ليس لها هم في سوى ذلك، وأما ما لا يحمد ولا يذم فهو ما خلا عن هذين القصدين، وتجرد عن الوصفين. والمقصود أن هذا الحديث الشريف مشتمل على أصلين عظيمين: فأوله معرفة، وآخره سلوك، فيعرف الله سبحانه بالجمال الذي لا يماثله في شيء، ويعبد بالجمال الذي يحبه من الأقوال والأعمال والأخلاق، فيحب من عبده أن يجمل لسانه بالصدق وقلبه بالإخلاص والمحبة والتوكل، وجوارحه بالطاعة، وبدنه بإظهار نعمه عليه في لباسه، وتطهيره له من الأنجاس والأحداث والأوساخ في الشعور المكروهة والختان وتقليم الأظافر، فيعرفه بصفات الجمال ويتعرف إليه بالأفعال والأقوال والأخلاق الجميلة، فيعرفه بالجمال الذي هو وصفه، ويعبده بالجمال الذي هو شرعه ودينه، فجمع الحديث قاعدتين: المعرفة والسلوك (٣). منهج الإمام ابن قيم الجوزية في شرح أسماء الله الحسنى لمشرف بن علي الغامدي -بتصرف – ص: ٤٦٧


(١) رواه مسلم (٤٦٥١). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) رواه أبو داود (٤١٦١)، وابن ماجه (٣٣٤٠)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (٥/ ٢٢٧). من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. والحديث سكت عنه أبو داود، وقال ابن حجر في ((فتح الباري)) (١٠/ ٣٨١): صحيح، وصحح إسناده السفاريني في ((شرح كتاب الشهاب)) (٢٨١).
(٣) ((الفوائد)) (ص: ٣٢٣ - ٣٢٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>