للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الذين لا يميزون الخالق بصفات تميزه عن المخلوق، ويقولون بأن وجود الخالق هو وجود المخلوق. فعلى سبيل المثال هم يقولون بأن الله هو المتكلم بكل ما يوجد من الكلام، وفي ذلك يقول ابن عربي:

ألا كل قول في الوجود كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه

يعم به أسماع كل مكون ... فمنه إليه بدؤه وختامه (١)

فيزعمون أنه هو المتكلم على لسان كل قائل. ولا فرق عندهم بين قول فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النَّازعات: ٢٤] ومَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: ٣٨] وبين القول الذي يسمعه موسى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي [طه: ١٤]. بل يقولون: (إنه الناطق في كل شيء؛ فلا يتكلم إلا هو، ولا يسمع إلا هو، حتى قول مسيلمة الكذاب، والدجال، وفرعون يصرحون بأن أقوالهم هي قوله) (٢).

وهذا قول أصحاب وحدة الوجود كابن عربي، وابن سبعين، وابن الفارض والعفيف التلمساني.

وأصل مذهبهم: أن كل واحد من وجود الحق، وثبوت الخلق يساوي الآخر ويفتقر إليه، وفي هذا يقول ابن عربي:

فيعبدني وأعبده ... ويحمدني وأحمده (٣)

ويقول: إن الحق يتصف بجميع صفات العبد المحدثات، وإن المحدث يتصف بجميع صفات الرب، وإنهما شيء واحد إذ لا فرق في الحقيقة بين الوجود والثبوت (٤) فهو الموصوف عندهم بجميع صفات النقص والذم, والكفر, والفواحش, والكذب, والجهل، كما هو الموصوف عندهم بصفات المجد, والكمال، فهو العالم والجاهل، والبصير والأعمى، والمؤمن والكافر، والناكح والمنكوح، والصحيح والمريض، والداعي والمجيب، والمتكلم والمستمع، وهو عندهم هوية العالم ليس له حقيقة مباينة للعالم، وقد يقولون لا هو العالم ولا غيره، وقد يقولون: هو العالم أيضاً وهو غيره، وأمثال هذه المقالات التي يجمع فيها في المعنى بين النقيضين مع سلب النقيضين (٥).

وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي العام والإثبات العام؛ فعندهم أن ذاته لا يمكن أن ترى بحال, وليس له اسم, ولا صفة, ولا نعت، إذ هو الوجود المطلق الذي لا يتعين، وهو من هذه الجهة لا يرى ولا اسم له.

ويقولون: إنه يظهر في الصور كلها، وهذا عندهم هو الوجود الاسمي لا الذاتي، ومن هذه الجهة فهو يرى في كل شيء، ويتجلى في كل موجود، لكنه لا يمكن أن ترى نفسه، بل تارة يقولون كما يقول ابن عربي: ترى الأشياء فيه، وتارة يقولون يرى هو في الأشياء, وهو تجليه في الصور، وتارة يقولون كما يقول ابن سبعين:

(عين ما ترى ذات لا ترى ... وذات لا ترى عين ما ترى)

وهم مضطربون لأن ما جعلوه هو الذات عدم محض، إذ المطلق لا وجود له في الخارج مطلقاً بلا ريب، لم يبق إلا ما سموه مظاهر ومجالي، فيكون الخالق عين المخلوقات لا سواها، وهم معترفون بالحيرة والتناقض مع ما هم فيه من التعطيل والجحود (٦).

وفي هذا يقول ابن عربي:

فإن قلت بالتنزيه كنت مقيداً ... وإن قلت بالتشبيه كنت محدداً

وإن قلت بالأمرين كنت مسدداً ض ... وكنت إماماً في المعارف سيداً

فمن قال بالإشفاع كان مشركاً ... ومن قال بالإفراد كان موحداً

فإياك والتشبيه إن كنت ثانياً ... وإياك والتنزيه إن كنت مفرداً

فما أنت هو بل أنت هو وتراه ... في عين الأمور مسرحاً ومقيداً) (٧)

@ مقالة التعطيل والجعد بن درهم لمحمد بن خليفة التميمي– ص: ٣٣


(١) ((الفتوحات المكية)) (٤/ ١٤١) ط: دار صادر، بيروت.
(٢) ((بغية المرتاد)) (ص: ٣٤٩).
(٣) ((فصوص الحكم)) (١/ ٨٣).
(٤) ((بغية المرتاد)) (ص: ٣٩٧، ٣٩٨).
(٥) ((بغية المرتاد)) (ص: ٤٠٨).
(٦) ((بغية المرتاد)) (ص: ٤٧٣).
(٧) ((بغية المرتاد)) (ص: ٥٢٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>