والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا ميز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار. وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حكمت السفيه، وأحكمته إذا أخذت على يديه، وحكمت الدابة وأحكمتها إذا جعلت لها حكمة، وهو ما أحاط الحنك من اللجام، وإحكام الشيء إتقانه. فإحكام الكلام: إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.
والقرآن كله محكم بمعنى الإتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس: ١].
وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [النساء: ٨٢]، وهو الاختلاف المذكور في قوله: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: ٨ - ٩] فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدق بعضه بعضاً.
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام، بل هو مصدق له. فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضه، لا يناقض بعضه بعضاً. بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص. فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو هو مثله، وليس كذلك.
والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية. بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض. ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله، وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه) (١).
فتبين من هذا العرض أن (الإحكام) و (التشابه) المتعلقان بالقرآن أربعة أنواع:
١ - الإحكام العام: بمعنى الإتقان في أخباره وأحكامه.
٢ - التشابه العام: وهو تماثله وتناسبه وتصديق بعضه بعضاً.
٣ - التشابه الخاص: وهو مشابهة الشيء لغيره من وجه، ومخالفته له من وجه آخر.
٤ - الإحكام الخاص: الفصل بين الشيئين المشتبهين من وجه، المختلفين من وجه آخر.
فالأول والثاني متفقان، والثالث والرابع متضادان. مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات لأحمد بن عبدالرحمن القاضي – ص ٢٩٨
(١) ((التدمرية)) (ص: ١٠٢ - ١٠٦) باختصار.