للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال تليمذه ابن القيم رحمه الله: (الكشف الصحيح أن يعرف الحق الذي بعث الله به رسله, وأنزل به كتبه، معاينة لقلبه، ويجرد إرادة القلب له، فيدور معه وجوداً وعدماً، هذا هو التحقيق الصحيح، وما خالفه فغرور قبيح) (١).

المقام الخامس: مرتبة الوحي أعظم وأشرف من مرتبة الكشف والإلهام ونحوهما:

عدد ابن القيم رحمه الله مراتب الهداية، وأوصلها إلى عشر مراتب، ذكر في مقدمتها: التكليم، والوحي، وإرسال الملك، وجعل هذه الثلاث خاصة بالأنبياء لا يشركهم فيها أحد من الأولياء. ثم ذكر في المرتبة الرابعة: مرتبة التحديث، وفي المرتبة التاسعة: الإلهام، والرؤية في المرتبة العاشرة ... (٢).

فهذا يبين أن مرتبة الوحي وعلم الشريعة – التي مصدرها الوحي – أفضل وأشرف من مرتبة التحديث والإلهام وغيرها من مصادر العلم، ويتضح ذلك بوجوه (٣):

الأول: أن علم الشريعة خبراً وطلباً لا ينال إلا من جهة الوحي الذي طريقه الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما العلم بالمكاشفات ونحوها فأسبابه كثيرة، ومعلوم أن ما اختص به الرسول وورثته أفضل مما يشركهم فيه بقية الناس.

الثاني: أن الشريعة لا يعمل بها إلا المؤمنون الصالحون الذين هم أهل الجنة وأحباب الله وصفوته وأولياؤه، ولا يأمر بها إلا هم، وأما المكاشفات ونحوها فقد تقع من كافر, ومنافق, وفاجر، فما كان من العلم مختصاً بالصالحين فهو أفضل مما يشترك فيه المصلحون والمفسدون.

الثالث: العلم بالشريعة والعمل به ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة، ويدفع عنه مضرة الدنيا والآخرة من غير حاجة معه إلى الكشف ونحوه، وأما العلم بالكشف وغيره إن لم يقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة؛ أما في الآخرة فلعدم الدين؛ وأما في الدنيا فلأن الإنسان يعرض نفسه، ودينه، وجسمه، وقلبه، وعقله، وأهله وماله لمخاطرات، لا يضمن حسن العاقبة معها، فكم منهم من ذهب عقله وماله، وأشقى نفسه من غير حصول مطلوبه.

الرابع: إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلابد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلاق:٢ - ٣] وليس العكس، أعني أن خرق العادة لا يدل على صحة الدين علماً وعملاً.

الخامس: أن المقصود من الوحي والشرع مراعاة حق العبودية وإقامتها, وقد أمر بذلك الشارع، ومقصود المتصوفة من الكشف ونحوه مشاهدة الربوبية، ولم يأمر بها الشارع، ومن المعلوم أن مراعاة ما أمر به الشارع أولى من مراعاة ما لم يأمر به. منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد عند أهل السنة والجماعة لعثمان بن علي بن حسن- بتصرف – ٢/ ٦٥٥


(١) ((مدارج السالكين)) (٣/ ٢٢٦).
(٢) انظر: ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٧) وما بعدها.
(٣) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١١/ ٣٢٧) وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>