للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بل قد يحصل على لسان بعض المجانين شيء من ذلك، فيأتي في بعض الأحيان بمكاشفات صحيحة، وهو مع ذلك متلوث بالنجاسات، مخالط للقاذورات، فيغتر به من جهل حاله، فينسبه إلى أولياء الله المقربين، وهو في الحقيقة معذور قد رفع عنه قلم التكليف، فليس هو ولياً لله ولا عدواً له (١).

وقال ابن سينا: (إذا بلغك أن عارفاً أطاق بقوته فعلاً, أو تحريكاً, أو حركة تخرج عن وسع مثله؛ فلا تتلقه بكل ذلك الاستنكار، فلقد تجد إلى سببه سبيلاً في اعتبارك مذاهب الطبيعة) (٢).

وقال – أيضاً – (إذا بلغك أن عارفاً حدث عن غيب فأصاب متقدماً ببشرى أو نذير، فصدق، ولا يتعسرن عليك الإيمان به، فإن لذلك في مذاهب الطبيعة أسباباً معلومة) (٣).

فهذا مما يؤكد أن تلك الخوارق قد ينالها الكافر بأسباب طبيعية، لا تدل على ولاية ولا كرامة. وقد قسم أهل العلم الفراسة إلى ثلاثة أقسام (٤)، وذكروا منها الفراسة الرياضية، وأنها تحصل بالجوع, والسهر, والتخلي، وأنها مشتركة بين المؤمن والكافر، لا تدل على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم.

فإذا كانت هذه الخوارق تقع من المسلم ومن الكافر، وتتعدد أسبابها، وتختلف مصادرها: فقد تكون من الله، أو من نفس الإنسان، أو من الشيطان، لم يكن في وقوعها من شخص ما دليل على ولايته وصلاحه، كما أنه لا يضر المسلم عدمها، فمن لم تنكشف له شيء من المغيبات، أو لم تسخر له شيء من الكونيات لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دنياه وآخرته (٥).

لكن الدين إذا صح علماً وعملاً فإنه يوجب خرق العادة – كما مر – إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس: ٦٢ - ٦٣] فلم يذكر لهم شيئاً أحسن من الوصف بالإيمان والتقوى.

قال أبو علي الجوزجاني: (كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة) (٦).

وقال أبو العباس بن عطاء: (من ألزم نفسه آداب الله نور الله قلبه بنور المعرفة، ولا مقام أشرف من مقام متابعة الحبيب -عليه الصلاة والسلام- في أوامره، وأفعاله، وأخلاقه) (٧).

ويقول الشعراني: (أكمل الإلهام أن يلهم الرجل أتباع الشرع، والنظر في الكتب الإلهية، ويقف عند حدودها وأوامرها ... ) (٨).

ثم إن الخارق – المكاشفة – قد يقع للمؤمن لنقصان درجته وضعف يقينه، أما من كوشف بصدق اليقين – يقين المعرفة الشرعية – ورفع عن قلبه حجاب الشبهة والشهوة، أغناه ذلك عن معاينة الخوارق، بل الحكمة لا تقتضي حصولها لمن هذا حاله، إنما تحصل للأول لحاجته إليها (٩).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة، ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع، فما يبالي، ولا ينقص بذلك، وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة) (١٠).


(١) انظر: ((قطر الولي)) (ص: ٢٥٤).
(٢) ((الإشارات والتنبيهات)) (ص: ٢٠٨).
(٣) ((الإشارات والتنبيهات)) (ص: ٢٠٩).
(٤) انظر: ((شرح الطحاوية)) (ص: ٥٠٠).
(٥) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١١/ ٣٢٣)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: ٤٩٨).
(٦) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١١/ ٣٢٠)، و ((شرح الطحاوية)) (ص: ٤٩٦).
(٧) ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن (ص: ٥٩، ٦٠)، و ((مشتهى الخارف)) (ص: ١٦٨).
(٨) ((مشتهى الخارف)) (ص: ٢٧٠).
(٩) انظر: ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١١/ ٣٢١).
(١٠) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١١/ ٣٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>