للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا نهى الشارع الحكيم عن كل ما يؤدي إلى اتخاذ الأوثان، مثل تعظيم قبور الأنبياء والصالحين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع هي التي أوقعت كثيراً من الأمم، إما في الشرك الأكبر، أو فيما دونه من الشرك، فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين ... ونحو ذلك، فلأن يشرك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه، أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله، وبهذا نجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها ويخشعون، ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في المسجد، بل ولا في السحر، ومنهم من يسجد لها، وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء بها ما لا يرجونه في المساجد التي تشد إليها الرحال).

ثم قال رحمه الله: (فهذه المفسدة، التي هي مفسدة الشرك – كبيره وصغيره – هي التي حسم النبي صلى الله عليه وسلم مادتها، حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقاً، وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته، كما يقصد بصلاته بركة المساجد الثلاثة، ونحو ذلك، كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس واستوائها وغروبها، لأنها الأوقات التي يقصد المشركون بركة الصلاة للشمس فيها، فنهى المسلم عن الصلاة حينئذ – وإن لم يقصد ذلك – سدًّا للذريعة) (١) اهـ.

ومن الأمثلة أيضاً على النهي عن بعض أنواع التبرك سدًّا لذريعة الوقوع في الشرك: التبرك الممنوع بالأشجار والأحجار وبعض البقع، وتعظيمها، فإن هذا التبرك قد يؤدي إلى الشرك مع مرور الزمان.

ولقد كان من أسباب عبادة الأوثان والأحجار عند العرب أن الواحد منهم كان إذا أراد سفراً حمل معه حجراً من حجارة البيت تبركاً به وتعظيماً، حتى صاروا إلى عبادة الأحجار والجمادات.

جاء في كتاب (الأصنام) لابن الكلبي (أن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام لما سكن مكة، وولد بها أولاد كثير حتى ملأوا مكة ... ضاقت عليهم مكة، ووقعت بينهم الحروب والعداوات، وأخرج بعضهم بعضاً، فتفسحوا في البلاد ... وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجراً من حجارة الحرم، تعظيماً للحرم وصبابة بمكة، فحيثما حلوا وضعوه، وطافوا به كطوافهم بالكعبة، تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم وحباً له، وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام.

ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا، ونسوا ما كانوا عليه، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره، فعبدوا الأوثان، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم قبلهم ... ) (٢).

ثانياً: الابتداع:

التبرك الممنوع ابتداع في الدين، ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا من سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله السلف الصالح رحمهم الله تعالى، وهو مخالف للتبرك المشروع الذي دلت عليه الأدلة الشرعية.

فالتبرك الممنوع كله إذاً من أصنام البدع المحدثة المذمومة، إلا أن بدعيته تتفاوت وتختلف باختلاف صوره وكيفيته، فإن منه ما يصل إلى حد الشرك ... ومنه ما يكون أدنى من ذلك.

والأمثلة على صور التبرك الممنوع المبتدعة كثيرة جداً،. ....

ومن نماذج ذلك على سبيل الإجمال ما يأتي:-

- شد الرحال إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين.

- التبرك بقبور الأنبياء والصالحين، كأداء العبادات عندهم، مثل الصلاة والدعاء والطواف، وكتقبيل القبور والتمسح بها، وحمل شيء من ترابها والعكوف عندها.

- قصد مواضع صلاة أو جلوس النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة أو الدعاء، مما لم يفعله صلى الله عليه وسلم على وجه التعبد.


(١) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (٢/ ٦٧٤).
(٢) ((الأصنام)) لابن الكلبي (ص: ٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>