للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن كل من يتأمل في تلك الأحاديث الكريمة يظهر له بصورةٍ لا شك فيها أن الاتخاذ المذكور حرام، بل كبيرة من الكبائر، لأن اللعن الوارد فيها، ووصف المخالفين بأنهم شرار الخلق عند الله تبارك وتعالى، لا يمكن أن يكون في حقّ من يرتكب ما ليس كبيرة كما لا يخفى.

مذاهب العلماء في ذلك:

وقد اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة وإليك تفاصيل المذاهب في ذلك:

١ - مذهب الشافعية أنه كبيرة:

قال الفقيه ابن حجر الهيتمي: الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثاناً، والطواف بها، واستلامها، والصلاة إليها (١).

ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة وغيرها، ثم قال: (تنبيه): عدّ هذه الستة من الكبائر وقع في كلام بعض الشافعية، ... ووجه اتخاذ القبر مسجداً منها واضح، لأنه لعن من فعل ذلك بقبور أنبيائه، وجعل من فعل ذلك بقبور صلحائه شر الخلق عند الله تعالى يوم القيامة، ففيه تحذير لنا كما في رواية: ((يُحذِّر مثل الذي صنعوا)) (٢) أي يُحذِّر أمته بقوله لهم ذلك من أن يصنعوا كصنع أولئك، فيلعنوا كما لعنوا، ومن ثم قال أصحابنا: تحرم الصلاة إلى قبور الأنبياء والأولياء تبركاً وإعظاماً، ومثلها الصلاة عليه للتبرك والإعظام، وكون هذا الفعل كبيرة ظاهرة من الأحاديث المذكورة لما علمت، فقال بعض الحنابلة: قصد الرجل الصلاة عند القبر متبركاً به عين المحادّة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وابتداع دين لم يأذن به الله، للنهي عنها ثم إجماعاً، فإن أعظم المحرمات وأسباب الشرك الصلاة عندها، واتخاذها مساجد، أو بناؤها عليها والقول بالكراهة محمول على غير ذلك، إذ لا يظن بالعلماء تجويز فعل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن فاعله، ويجب المبادرة لهدمها، وهدم القباب التي على القبور إذ هي أضر من مسجد الضرار، لأنها أسست على معصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه نهى عن ذلك، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم القبور المشرفة، وتجب إزالة كل قنديل أو سراج على قبر، ولا يصح وقفه ونذره. اهـ. (٣).

هذا كله كلام الفقيه ابن حجر الهيتمي، وأقره عليه المحقق الألوسي في (روح المعاني) (٤)، وهو كلام يدل على فهم وفقه في الدين؛ وقوله فيما نقله عن بعض الحنابلة: والقول بالكراهة محمول على غير ذلك كأنه يشير إلى قول الشافعي: وأكره أن يُبنى على القبر مسجد وأن يُسوّى، أو يُصلّى عليه، وهو غير مُسوّى - يعني: أنه ظاهر معروف - أو يُصلّى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (٥). قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يُعظّم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجداً، ولم تُؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده (٦).


(١) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (١/ ١٢٠).
(٢) رواه البخاري (٤٣٥، ٤٣٦)، ومسلم (٥٣١).
(٣) ((الزواجر عن اقتراف الكبائر)) (١/ ١٢١).
(٤) ((روح المعاني)) (٥/ ٣١).
(٥) رواه مالك في ((الموطأ)) (٢/ ٨٩٢) مرسلاً. من حديث عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. ورواه موصولاً البخاري (٤٣٧)، ومسلم (٥٣٠) بدون لفظة: (النصارى)، وأحمد (٢/ ٢٨٥) (٧٨١٨) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(٦) ((الأم)) (ص٢٤٦).

<<  <  ج: ص:  >  >>