للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا أتباعه من الشافعية كما في (التهذيب)، وشرحه (المجموع) ومن الغريب أنهم يحتجون على ذلك ببعض الأحاديث ... مع أنها صريحة في تحريم ذلك، ولعن فاعله، ولو أن الكراهة كانت عندهم للتحريم لقرب الأمر، ولكنها لديهم للتنزيه فكيف يتفق القول بالكراهة مع تلك الأحاديث التي يستدلون بها عليها؟!

أقول هذا، وإن كنت لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر بأسلوب القرآن غاية التأثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ [الحجرات:٧] وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى - والله أعلم - هو الذي أراده الشافعي رحمه الله بقوله المتقدم: (وأكره)، ويؤيده أنه قال عقب ذلك: وإن صلى إليه أجزأه، وقد أساء؛ فإن قوله: (أساء) معناه: ارتكب سيئة، أي حراماً، فإنه هو المراد بالسيئة في أسلوب القرآن أيضاً، فقد قال تعالى في سورة (الإسراء) بعد أن نهى عن قتل الأولاد، وقربان الزنى، وقتل النفس وغير ذلك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء: ٣٨] أي: محرماً.

ويؤكد أنّ هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة: أن مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دلّ الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته (جماع العلم) (١) ونحوه في كتابه (الرسالة) (٢)، ومن المعلوم لدى كل من درس هذه المسألة بأدلتها أنه لا يوجد أي دليل يصرف النهي الوارد في بعض الأحاديث المتقدمة إلى غير التحريم كيف والأحاديث تؤكد أنه للتحريم ... ؟ ولذلك فإني أقطع بأن التحريم هو مذهب الشافعي، لاسيما وقد صرح بالكراهة بعد أن ذكر حديث: ((قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) (٣) ... فلا غرابة إذاً إن صرح الحافظ العراقي -وهو شافعي المذهب - بتحريم بناء المسجد على القبر كما تقدم والله أعلم.

ولهذا نقول: لقد أخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحة تزوج الرجل بنته من الزنى بحجّة أنه صرّح بكراهة ذلك والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه! قال ابن القيم: نصّ الشافعي على كراهة تزوج الرجل بنته من ماء الزنى، ولم يقل قطّ أنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته

ومنصبه الذي أحلّه الله به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة لأن الحرام يكرهه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند

قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ ... [الإسراء: ٢٣] إلى قوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ... [الأنعام:١٥١] إلى قوله: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء: ٣٦] إلى آخر الآيات ثم قال: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:٣٨]، وفي (الصحيح): ((إن الله عز وجل كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال)) (٤).


(١) ((جماع العلم)) (ص١٢٥).
(٢) ((الرسالة)) (ص٣٤٣).
(٣) رواه البخاري (٤٣٧)، ومسلم (٥٣٠) بدون لفظ: (النصارى)، وأحمد (٢/ ٢٨٥) (٧٨١٨) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال شعيب الأرناؤوط محقق المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(٤) رواه البخاري (٢٤٠٨) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. ومسلم (١٧١٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>