للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: أننا لا نسلم صحة الحديث المشار إليه، لأنه لم يروه أحد ممن عني بتدوين الحديث الصحيح، ولا صححه أحد ممن يوثق بتصحيحه من الأئمة المتقدمين، ولا النقد الحديثي يساعد على تصحيحه، فإن في إسناده من يروي الغرائب وذلك مما يجعل القلب لا يطمئن لصحة ما تفرد به، قال الطبراني في (معجمه الكبير): حدثنا عبدان بن أحمد نا عيسى بن شاذان، نا أبو همام الدلال، نا إبراهيم بن طمهان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عمر مرفوعاً بلفظ: ((في مسجد الخيف قَبرُ سبعين نبياً)) (١).

وأورده الهيثمي (المجمع) بلفظ: (( ... قُبِرَ سبعون نبياً)) وقال: رواه البزار ورجاله ثقات.

وهذا قصور منه في التخريج، فقد أخرجه الطبراني أيضاً كما رأيت.

وأنا أخشى أن يكون الحديث تحرّف على أحدهما فقال: (قُبِر) بدل (صلى) لأن هذا اللفظ الثاني هو المشهور في الحديث، فقد أخرج الطبراني في (الكبير) بإسنادٍ رجاله ثقات عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مرفوعاً: ((صلى في مسجد الخيف سبعون نبياً ... )) الحديث (٢) ...

وجملة القول: أن الحديث ضعيف لا يطمئن القلب لصحته، فإن صح فالجواب عنه من الوجه الآتي وهو:

الثاني: أن الحديث ليس فيه أن القبور ظاهرة في مسجد الخيف، وقد عقد الأزرقي في (تاريخ مكة) (٣) عدة فصول في وصف مسجد الخيف، فلم يذكر أن فيه قبوراً بارزةً، ومن المعلوم أن الشريعة إنما تُبنى أحكامها على الظاهر، فإذاً ليس في المسجد المذكور قبور ظاهرة، فلا محظور في الصلاة فيه ألبتة، لأن القبور مندرسة ولا يعرفها أحد، بل لولا هذا الخبر الذي عرفت ضعفه لم يخطر في بال أحد أن في أرضه سبعين قبراً! ولذلك لا يقع فيه تلك المفسدة التي تقع عادة في المساجد المبنية على القبور الظاهرة والمشرفة!.

الجواب عن الشبهة الرابعة:

وأما ما ذكر في بعض الكتب أن قبر إسماعيل عليه السلام وغيره في الحجر من المسجد الحرام وهو أفضل مسجد يتحرى فيه.

فالجواب: لا شك أن المسجد الحرام أفضل المساجد والصلاة فيه بمائة ألف صلاة (٤)، ولكن هذه الفضيلة أصلية فيه منذ رفع قواعده إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، ولم تطرأ هذه الفضيلة عليه بدفن إسماعيل عليه السلام فيه لو صح أنه دفن فيه، ومن زعم خلاف ذلك، فقد ضلَّ ضلالاً بعيداً، وجاء بما لم يقله أحد من السلف الصالح رضي الله عنهم، ولا جاء به حديث تقوم الحجة به.

فإن قيل: لا شك فيما ذكرت، ودفن إسماعيل فيه لا يخالف ذلك، ولكن ألا يدل هذا على الأقل على عدم كراهية الصلاة في المسجد الذي فيه قبر؟

فالجواب: كلا ثم كلا، وهاك البيان من وجوه:


(١) رواه الطبراني (١٢/ ٤١٤) بلفظ: ((في مسجد الخيف قُبِر سبعين نبياً)). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٣/ ٣٠٠): رواه البزار ورجاله ثقات. وقال ابن حجر في ((مختصر البزار)) (١/ ٤٧٦): إسناده صحيح. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): ضعيف.
(٢) رواه الطبراني (١١/ ٤٥٢). من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٣/ ٣٠٠): رواه الطبراني في ((الكبير)) وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط. وقال الألباني في ((تحذير الساجد)): حسن.
(٣) ((تاريخ مكة)) (٤٠٦ - ٤١٠).
(٤) قال صلى الله عليه وسلم: ((وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه)). رواه ابن ماجه (١٤٠٦)، وأحمد (٣/ ٣٤٣) (١٤٧٣٥). قال ابن الملقن في ((البدر المنير)) (٩/ ٥١٧): إسناده صحيح. وقال العراقي في ((طرح التثريب)) (٦/ ٤٧): إسناده جيد. وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (٤/ ١٥٥٠): إسناده صحيح إلا أنه اختلف فيه على عطاء. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>