للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الأول: أنه لم يثبت في حديثٍ مرفوعٍ أن إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام دفنوا في المسجد الحرام، ولم يرد شيء من ذلك في كتابٍ من كتب السنة المعتمدة كـ (الكتب الستة)، و (مسند أحمد)، و (معاجم الطبراني الثلاثة) وغيرها، ضعيفاً بل موضوعاً عند بعض المحققين (١)، وغاية ما روي في ذلك من آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في (أخبار مكة)، فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات (٢). ونحو ذلك ما أورد السيوطي في (الجامع) من رواية الحاكم في (الكنى) عن عائشة مرفوعاً بلفظ: ((إن قبر إسماعيل في الحجر)) (٣).

الوجه الثاني: أن القبور المزعوم وجودها في المسجد الحرام غير ظاهرة ولا بارزة، ولذلك لا تقصد من دون الله تعالى، فلا ضرر من وجودها في بطن أرض المسجد، فلا يصح حينئذٍ الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على قبور مرتفعة على وجه الأرض لظهور الفرق بين الصورتين، وبهذا أجاب الشيخ على القاري رحمه الله تعالى، فقال في (مرقاة المفاتيح): ... وذكر غيره أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قَبْرُ سبعين نبيًّا (٤).

قال القاري: وفيه أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح الاستدلال (٥).

وهذا جواب عالم نحرير، وفقيه خريت، وفيه الإشارة إلى ما ذكرناه آنفاً، وهو أن العبرة في هذه المسألة بالقبور الظاهرة، وأن ما في بطن الأرض من القبور، فلا يرتبط به حكم شرعي من حيث الظاهر، بل الشريعة تنزه عن مثل هذا الحكم، لأننا نعلم بالضرورة والمشاهدة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء، كما قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [المرسلات: ٢٥ - ٢٦]

قال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم (٦).

ومنه قول الشاعر:

صاح هذي قبورنا تملأ الرحب ... فأين القبور من عهد عاد؟

خفف الوطأ ما أظن أديم ... الأرض إلا من هذه الأجساد

سر إن استطعت في الهواء رويداً ... لا اختيالا على رفات العباد

ومن البيّن الواضح أن القبر إذا لم يكن ظاهراً غير معروفاً مكانه، فلا يترتب من وراء ذلك مفسدة كما هو مشاهد، حيث ترى الوثنيات والشركيات إنما تقع عند القبور المشرفة، حتى ولو كانت مزورة! لا عند القبور المندرسة، ولو كانت حقيقية، فالحكمة تقتضي التفريق بين النوعين، وهذا ما جاءت به الشريعة كما بيّنا سابقاً، فلا يجوز التسوية بينهما، والله المستعان.

الجواب عن الشبهة الخامسة:


(١) قال الألباني: نقل السيوطي في ((التدريب)) عن ابن الجوزي قال: ما أحسن قول القائل: إذا رأيت الحديث يباين العقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول، فاعلم أنه موضوع. قال: ومعنى مناقضته للأصول أن يكون خارجاً من دواوين الإسلام من المسانيد والكتب المشهورة. كذا في ((الباعث الحثيث)) (ص٨٥).
(٢) قال الألباني: انظر: ((إحياء المقبور)) (٤٧ - ٤٨). ومن عجائب الجهل بالسنة أن بعض المفسرين المتأخرين احتج بهذه الآثار الواهية على جواز الصلاة في المقبرة بقصد الاستظهار بروح الميت أو وصول أثر ما من أثر عبادته لا للتعظيم له والتوجه نحوه! وهذا مع أنه لا دليل فيها على ما زعمه من الجواز، فهو مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما شابهها من المساجد المبنية على القبور ...
(٣) قال الألباني في ((ضعيف الجامع الصغير)) (١٩٠٧): ضعيف.
(٤) (مرقاة المفاتيح) (١/ ٤٥٦).
(٥) (مرقاة المفاتيح) (١/ ٤٥٦).
(٦) رواه الدولابي (١/ ١٢٩)، والطبري في ((تفسيره)) (٢٤/ ١٣٤). قال الألباني في ((تحذير الساجد)): رجاله ثقات.

<<  <  ج: ص:  >  >>