للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأنت ترى أن هذه القصة مدارها على الزهري فهي مرسلة على اعتبار أنه تابعي صغير، سمع من أنس بن مالك رضي الله عنه، وإلا فهي معضلة، وكيف ما كان الأمر فلا تقوم بها حجة، على أن موضع الشاهد منها وهو قوله: (وبنى على قبره مسجداً) لا يظهر من سياق ابن عبد البر للقصة أنه من مرسل الزهري، ولا من رواية عبدالرزاق عن معمر عنه، بل هو من رواية موسى بن عقبة، كما صرح به ابن عبد البر، لم يجاوزه، وابن عقبة لم يسمع أحداً من الصحابة، فهذه الزيادة ... قوله: (وبنى على قبره مسجداً) معضلة (١)، بل هي عنده منكرة، لأن القصة رواها البخاري في (صحيحه) (٢) موصولة من طريق عبدالرزاق عن معمر قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المسور بن مخرمة ومروان بها دون هذه الزيادة، وكذلك أوردها ابن إسحاق في (السيرة) عن الزهري مرسلاً كما في (مختصر السيرة) لابن هشام (٣)، ووصله أحمد في (مسنده) من طريق ابن إسحاق عن الزهري عن عروة به مثل رواية معمر وأتم وليس فيها هذه الزيادة (٤)، وكذلك رواه ابن جرير في (تاريخه) (٥) من طريق معمر وابن إسحاق وغيرهما عن الزهري به دون هذه الزيادة، فدل ذلك كله على أنها زيادة منكرة؛ لإعضالها، عدم رواية الثقات لها. والله الموفق.

الوجه الثاني: أن ذلك لو صح لم يجز أن ترد به الأحاديث الصريحة، في تحريم بناء المساجد على القبور لأمرين:

أولاً: أنه ليس في القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقره.

ثانياً: أنه لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك وأقره، فيجب أن يحمل ذلك على أنه قبل التحريم، لأن الأحاديث صريحة في أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم ذلك في آخر حياته كما سبق، فلا يجوز أن يترك النص المتأخر من أجل النص المتقدم - على فرض صحته - عند التعارض وهذا بيّن لا يخفى، نسأل الله تعالى أن يحمينا من اتباع الهوى!

الجواب عن الشبهة السادسة

وهي الزعم بأن المنع إنما كان لعلةٍ، وهي خشية الافتتان بالمقبور، وقد زالت، فزال المنع!!


(١) قال الألباني: ولا تغتر أيها القارئ بما فعله هنا مؤلف ((إحياء المقبور)) فإنه ساق (ص٤٤) القصة التي أوردناها في الأعلى من طريق ابن عبد البر، غير أن المؤلف حذف من كلامه: (وذكر موسى بن عقبة هذا الخبر). ووصل رواية عبدالرزاق عن الزهري برواية موسى بن عقبة حتى صارتا كأنهما رواية واحدة وبدا للناظر في سياقه أن القصة بناء المسجد على القبر هي من رواية عبدالرزاق عن الزهري، وإنما هي من رواية موسى بن عقبة بدون إسناد! ثم وقفت على رواية موسى بن عقبة في ((تاريخ ابن عساكر)) (٨/ ٣٣٤/١) رواه بإسنادين عنه عن ابن شهاب مرسلاً ومعضلاً بلفظ: (وجعل عند قبره مسجداً) وهذا اللفظ - لو صح - أقلّ مخالفة، لأنه ليس نصاً في أن البناء كان على القبر، بل عنده، وشتان ما بينهما، وليس فيه أيضاً أن أبا جندل هو الذي بنى المسجد؛ فتأمل.
(٢) رواه البخاري (٢٧٣١، ٢٧٣٢).
(٣) ((مختصر السيرة)) (٣/ ٣٣١ - ٣٣٩)
(٤) رواه أحمد (٤/ ٣٢٣) (١٨٩٣٠). قال شعيب الأرناؤوط محقق (المسند): إسناده حسن، محمد بن إسحاق وإن كان مدلساً وقد عنعن إلا أنه قد صرح بالتحديث في بعض فقرات هذا الحديث فانتفت شبهة تدليسه.
(٥) ((تاريخ الطبري)) (٣/ ٢٧١ - ٢٨٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>