للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لا أعلم أحداً من العلماء ذهب إلى القول بهذه الشبهة، إلا مؤلف (إحياء المقبور) فإنه تمسك بها وجعلها عمدته في رد تلك الأحاديث المتقدمة واتفاق الأمة عليها، فقال ما نصه: وأما النهي عن بناء المساجد على القبور، فاتفقوا على تعليله بعلتين: إحداهما: أن يؤدي إلى تنجيس المسجد (١) ... وثانيهما: وهو قول الأكثرين بل الجميع حتى من نص على العلة السابقة أن ذلك قد يؤدي إلى الضلال والفتنة بالقبر، لأنه إذا وقع بالمسجد، وكان قبر ولي مشهور بالخير والصلاح، لا يؤمن مع طول المدة أن يزيد اعتقاد الجهلة فيه، ويؤدي بهم إلى فرط التعظيم إلى قصد الصلاة إليه، إذا كان في قبلة المسجد، فيؤدي بهم ذلك إلى الكفر والإشراك (٢).

ثم ساق شيئاً من النقول في العلة المذكورة عن بعض العلماء منهم الإمام الشافعي، ثم قال المؤلف المشار إليه: والعلة المذكورة قد انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين، ونشأهم على التوحيد الخالص، واعتقاد نفي الشريك مع الله تعالى، وأنه سبحانه المنفرد بالخلق والإيجاد والتصريف (!) وبانتفاء العلة ينتفي الحكم المترتب عليها، وهو كراهة اتخاذ المساجد والقباب على قبور الأولياء والصالحين (٣)!

... والجواب: أن يقال: أثبت العرش ثم انقش!

أثبت أولاً أن الخشية المذكورة هي وحدها علة النهي، ثم أثبت أنها قد انتفت، ودون ذلك خرط القتاد.

أما الأول: فإنه لا دليل مطلقاً على أن العلة هي الخشية المذكورة فقط، نعم من الممكن أن يقال: إنها بعض العلة، وأما حصولها بها فباطل، لأن من الممكن أيضاً أن يضاف إليها أمور أخرى معقولة كالتشبه بالنصارى، وكالإسراف في صرف المال فيما لا فائدة فيه شرعاً، وغير ذلك مما قد يبدو للباحث الناقد.

وأما زعمه أن العلة انتفت برسوخ الإيمان في نفوس المؤمنين إلخ. فهو زعم باطل أيضاً وبيانه من وجوه:

الأول: أن الزعم بُني على أصل باطل، وهو أن الإيمان بأن الله هو المنفرد بالخلق، والإيجاد كاف في تحقيق الإيمان المنجي عند الله تبارك وتعالى، وليس كذلك، فإن هذا التوحيد وهو المعروف عند العلماء بتوحيد الربوبية، كان يؤمن به المشركون الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:٢٥]، ومع ذلك فلم ينفعهم هذا التوحيد شيئاً، لأنهم كفروا بتوحيد الألوهية والعبادة، وأنكروه على النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، بقولهم فيما حكاه الله عنهم: أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:٥].

ومن مقتضيات هذا التوحيد الذي أنكروه ترك الاستغاثة بغير الله، وترك الدعاء والذبح لغير الله، وغير ذلك مما هو خاص بالله تعالى من العبادات، فمن جعل شيئاً من ذلك لغير الله تبارك وتعالى فقد أشرك به، وجعل له نداً وإن شهد له بتوحيد الربوبية، فالإيمان المنجي إنما هو الجمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وإفراد الله بذلك، وهذا مفصّل في غير هذا الموضوع ...

الوجه الثاني:


(١) قال الألباني: وهذه العلة باطلة من وجوه لا مجال لبيانها الآن، ومن أدلة ذلك بخصوص قبور الأنبياء: أن أجسادهم لا تبلى كما صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تنجس الأرض بهم؟!
(٢) ((إحياء المقبور)) (ص١٨ - ١٩).
(٣) ((إحياء المقبور)) (ص٢٠ - ٢١).

<<  <  ج: ص:  >  >>