وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله تعالى: في كتاب (التوحيد) بعد تبويبه على تكليم الله موسى عليه الصلاة والسلام: وتكليم الله بالوحي وصفة نزول الوحي وتكليم الله عباده يوم القيامة وتقرير البحث في ذلك، ثم قال: باب ذكر البيان في كتاب ربنا المنزل على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومن سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على الفرق بين كلام الله عز وجل الذي به يكون خلقه وبين خلقه الذي يكون بكلامه وقوله والدليل على نبذ قول الجهمية الذين يزعمون أن كلام الله تعالى: مخلوق جل ربنا وعز عن ذلك. قال الله تعالى: أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [الأعراف:٥٤] ففرق الله تعالى: بين الخلق والأمر الذي به يخلق الخلق بواو الاستئناف وأعلمنا الله جل وعلا في محكم تنزيله أنه يخلق الخلق بكلامه وقوله: ِإنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ [النحل:٤٠] فأعلمنا جل وعلا أنه يكون كل مكون من خلقه بقوله كن فيكون وقوله كن هو كلامه الذي به يكون الخلق وكلامه عز وجل الذي به يكون الخلق غير الخلق الذي يكون مكونا بكلامه فافهم ولا تغلط ولا تغالط ومن عقل عن الله خطابه علم أن الله سبحانه لما أعلم عباده المؤمنين أنه يكون الشيء بقوله: كن أن القول الذي هو كن غير المكون بكن المقول له كن وعقل عن الله أن قوله كن لو كان خلقا على ما زعمت الجهمية المفترية على الله أنه إنما يخلق الخلق ويكونه بخلق لو كان قوله كن خلقا فيقال لهم يا جهلة فالقول الذي يكون به الخلق على زعمكم لو كان خلقا بم يكونه؟ أليس قول مقالتكم التي تزعمون أن قوله: كن إنما يخلقه بقول قلبه وهو عندكم خلقه وذلك القول يخلقه بقول قلبه وهو خلق حتى يصير إلى ما لا غاية له ولا عدد ولا أول, وفي هذا إبطال تكوين الخلق وإنشاء البرية وإحداث ما لم يكن قبل أن يحدث الله الشيء وينشئه, وهذا قول لا يتوهمه ذو لب لو تفكر فيه ووفق لإدراك الصواب والرشاد قال الله تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ [الأعراف:٥٤] فهل يتوهم مسلم أن الله تعالى: سخر الشمس والقمر والنجوم مسخرات بخلقه أليس مفهوما عند من يعقل عن الله خطابه أن الأمر الذي سخر به غير المسخر بالأمر وأن القول غير المقول له فتفهموا يا ذوي الحجا عن الله خطابه وعن النبي صلى الله عليه وسلم بيانه لا تصدوا عن سواء السبيل فتضلوا كما ضلت الجهمية عليهم لعائن الله فاسمعوا الآن الدليل الواضح البيّن غير المشكل من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل العدل موصولا إليه على الفرق بين خلق الله وبين كلام الله تعالى. ثم ساق الأحاديث في ذكر كلمات الله تعالى إلى الحديث:((أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)) (١) ثم قال: أفليس العلم محيطا يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه هل سمعت عالماً يجيز أن يقول: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله أو يجيز أن يقول أعوذ بالصفا والمروة أو أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه ...
(١) رواه مسلم (٢٧٠٨). من حديث خولة بنت حكيم السلمية رضي الله عنها.