للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بيّنا الكمال الذي حبا الله به رسله في صورهم الظاهرة، وأخلاقهم الباطنة، والمواهب والسجايا التي أعطاهم إياها في ذوات أنفسهم، وهناك نوع آخر من الكمال وفق الله رسله وأنبياءه لتحصيله، وهو تحقيق العبودية لله في أنفسهم. فكلّما كان الإنسان أكثر تحقيقاً للعبودية لله تعالى، كلَّما كان أكثر رقيّاً في سلّم الكمال الإنساني، وكلما ابتعد عن تحقيق العبودية لله كلما هبط وانحدر. والرسل حازوا السبق في هذا الميدان، فقد كانت حياتهم انطلاقة جادة في تحقيق هذه العبودية، وهذا خاتم الرسل وسيد المرسلين يثني عليه ربّه في أشرف المقامات بالعبودية، فيصفه بها في مقام الوحي فَأَوْحَىَ إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ [النجم: ١٠]، وفي مقام إنزال الكتاب تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: ١]، وفي مقام الدعوة وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: ١٩]، وفي مقام الإسراء سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىَ الْمَسْجِدِ الأقْصَى الّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ .. [الإسراء: ١] وبهذه العبودية التامة استحق صلوات الله وسلامه عليه التقديم على الناس في الدنيا والآخرة، ولذلك فإن المسيح عليه السلام يقول للناس إذا طلبوا منه الشفاعة بعد طلبها من الرسل من قبله: ((ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) (١).

وإليك صورة من صور هذه العبودية ترويها لنا أمّنا عائشة – رضي الله عنها – قالت رضي الله عنها وعن أبيها: ((قلت: يا رسول الله، كُلْ – جعلني الله فداك – متكئاً، فإنّه أهون عليك، فأحنى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض، وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)) رواه البغوي في (شرح السنة)، وابن سعد، والإمام أحمد في (الزهد) (٢).

- الذكورة:

ومن الكمال الذي حباهم به أنه اختار جميع الرسل الذين أرسلهم من الرجال، ولم يبعث الله رسولاً من النساء يدلُّ على ذلك صيغة الحصر التي وردت في قوله تعالى: وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاّ رِجَالاً نّوحِيَ إِلَيْهِمْ [الأنبياء: ٧]. الحكمة من كون الرسل رجالاً:

كان الرسل من الرجال دون النساء لحكم يقتضيها المقام فمن ذلك: ١ - أنّ الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، ومخاطبة الرجال والنساء، ومقابلة الناس في السرّ والعلانية، والتنقل في فجاج الأرض، ومواجهة المكذبين ومحاججتهم ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش وقيادتها، والاصطلاء بنارها، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء.

٢ - الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه، فهو في أتباعه الآمر الناهي، وهو فيهم الحاكم والقاضي، ولو كانت الموكلة بذلك امرأة لَمْ يتم ذلك لها على الوجه الأكمل، ولاستنكف أقوام من الاتباع والطاعة.

٣ - الذكورة أكمل كما بينا آنفاً، ولذلك جعل الله القوامة للرجال على النساء الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [النساء: ٣٤] وأخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنّ النساء ناقصات عقل ودين.

٤ - المرأة يطرأ عليها ما يعطلها عن كثير من الوظائف والمهمات، كالحيض والحمل والولادة والنفاس، وتصاحب ذلك اضطرابات نفسية وآلام وأوجاع، عدا ما يتطلبه الوليد من عناية، وكل ذلك مانع من القيام بأعباء الرسالة وتكاليفها. الرسل والرسالات لعمر الأشقر - ص ٧٨


(١) رواه البخاري (٦٥٦٥). من حديث أنس رضي الله عنه.
(٢) رواه ابن سعد في ((الطبقات الكبرى)) (١/ ٣٨١)، والبغوي في ((شرح السنة)) (١١/ ٢٨٧)، ورواه أبو يعلى (٨/ ٣١٨) (٤٩٢٠)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (٤/ ٧٤). قال الذهبي في ((سير أعلام النبلاء)) (٢/ ١٩٤): حسن غريب، وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٩/ ٢٢): رواه أبو يعلى وإسناده حسن، وحسن سنده العجلوني في ((كشف الخفاء)) (١/ ١٧)، وصححه الألباني ((صحيح الجامع)) (٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>