للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقول الطبري: (ما التوبة على الله لأحد من خلقه إلا للذين يعملون السوء من المؤمنين بجهالة، ثم يتوبون من قريب، يقول: ما الله براجع لأحد من خلقه إلى ما يحبه من العفو عنه، والصفح عن ذنوبه التي سلفت منه إلا للذين يأتون ما يأتونه من ذنوبهم جهالة منهم وهم بربهم مؤمنون ثم يراجعون طاعة الله ويتوبون منه إلى ما أمرهم الله به من الندم عليه والاستغفار وترك العودة إلى مثله قبل نزول الموت بهم، وذلك هو القريب الذي ذكره الله تعالى ذكره، فقال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ... ، تأويله يتوبون قبل مماتهم في الحال التي يفهمون فيها أمر الله تبارك وتعالى، ونهيه، وقبل أن يغلبوا على أنفسهم وعقولهم، وقبل حال اشتغالهم بكرب الحشرجة وغم الغرغرة، فلا يعرفوا أمر الله ونهيه، ولا يعقلوا التوبة؛ لأن التوبة لا تكون توبة إلا ممن ندم على ما سلف وعزم فيه على ترك المعاودة، وهو يعقل الندم، ويختار ترك المعاودة، وأما إذا كان بكرب الموت مشغولاً، وبغم الحشرجة مغموراً فلا أخاله إلا عن الندم على ذنوبه مغلوباً؛ ولذلك قال من قال: إن التوبة مقبولة ما لم يغرغر العبد بنفسه؛ فإن كان المرء في تلك الحال يعقل عقل الصحيح، ويفهم فهم العاقل الأديب فأحدث إنابة من ذنوبه، ورجعة من شروده عن ربه إلى طاعته كان إن شاء الله ممن دخل في وعد الله الذي وعد التائبين إليه من إجرامهم من قريب) (١).

فهذه الآية تدل على قبول الله تعالى للتوبة قبل حضور الموت، أما إذا حضر موته وغرغرت روحه فليس توبته معتبرة حينئذ ولا مقبولة، قال ابن كثير في تفسيره للآيتين السابقتين: (يقول سبحانه وتعالى إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب ولو بعد معاينة الملك يقبض روحه قبل الغرغرة ... ، فقد دلت الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة فإن توبته مقبولة ... ، وأما متى وقع الإياس من الحياة، وعاين الملك، وخرجت الروح من الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة من الغلاصم، فلا توبة مقبولة حينئذ ولات حين مناص) (٢).

وهذا مثل قوله تعالى عن فرعون: ... حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: ٩٠، ٩١].

ففرعون كفر بالله تعالى وكذّب رسوله عليه الصلاة والسلام، وأساء إلى نفسه أيام حياته وفي صحته بتماديه في طغيانه ومعصية ربه، فلما حل به سخط الله ونزل عليه عقابه، فزع إليه مستجيراً به من عذابه الواقع به، وناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرب الموت قائلاً: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ له المنقادين بالذلة والعبودية، فقال سبحانه وتعالى معرفاً فرعون قبح صنيعه في حياته: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ آلآن تقر بالعبودية وتستسلم له بالذلة وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك فأسخطته على نفسك، وكنت من الصادين عن سبيله، فهلا وأنت في مهل وباب التوبة لك منفتح أقررت بما أنت به الآن مقر (٣).


(١) ((تفسير الطبري)) (٤/ ٢٠٢، ٢٠٥، ٢٠٦).
(٢) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٤٣٩، ٤٤٠).
(٣) انظر: ((تفسير الطبري)) (١١/ ١١٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>