للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال السعدي: (حتى إذا أدرك فرعون الغرق وجزم بهلاكه قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وهو الله الحق، الذي لا إله إلا هو وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي: المنقادين لدين الله، ولما جاء به موسى، قال الله تعالى، مبيناً أن هذا الإيمان في هذه الحالة غير نافع له آلآنَ تؤمن، وتقر برسول الله وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ أي: بارزت بالمعاصي والكفر والتكذيب وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فلا ينفعك الإيمان كما جرت عادة الله أن الكفار إذا وصلوا إلى هذه الحالة الاضطرارية أنه لا ينفعهم إيمانهم؛ لأن إيمانهم صار إيماناً مشاهداً كإيمان من ورد القيامة، والذي ينفع إنما هو الإيمان بالغيب) (١).

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (بل هذه التوبة لا تمنع إلا إذا عاين أمر الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .. [النساء: ١٧] الآية ... وكل من تاب قبل الموت فقد تاب من قريب، وأما من تاب عند معاينة الموت فهذا كفرعون الذي قال: أنا الله فلما أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ قال الله: آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وهذا استفهام إنكار بين به أن هذه التوبة ليست هي التوبة المقبولة المأمور بها ... ومثله قوله تعالى: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [غافر: ٨٣ - ٨٥] الآية، بين أن التوبة بعد رؤية البأس لا تنفع، وأن هذه سنة الله التي قد خلت في عباده كفرعون وغيره) (٢).

وقبول التوبة قبل حضور الموت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، قال القرطبي: (قال علماؤنا رحمهم الله وإنما صحت منه التوبة في هذا الوقت؛ لأن الرجاء باق ويصح الندم والعزم على ترك الفعل، وقيل: المعنى يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار، والمبادرة في الصحة أفضل وألحق لأمله في العمل الصالح والبعد كل البعد عن الموت، وأما ما كان قبل الموت فهو قريب) (٣).

وقد أخبر الله تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر بأنهم لما رأوا وقوع عذاب الله بهم وحّدوا الله عز وجل وكفروا بالطاغوت فلم يقبل الله منهم توبتهم، قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ [غافر: ٨٤، ٨٥]، فهذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل، وهذه سنة الله وعادته أن المكذبين حين ينْزل بهم بأس الله وعقابه إذا آمنوا كان إيمانهم غير صحيح ولا مقبولاً؛ لأنه إيمان ضرورة قد اضطروا إليه، وإيمان مشاهدة، وإنما الإيمان المقبول المنجي هو الإيمان الاختياري، الذي يكون إيماناً بالغيب، وذلك قبل وجود قرائن العذاب (٤).


(١) ((تفسير السعدي)) (ص: ٣٢٨، ٣٢٩).
(٢) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (١٨/ ١٩٠، ١٩١).
(٣) ((التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة)) (١/ ٨٥).
(٤) انظر: ((تفسير ابن كثير)) (٤/ ٩١)، و ((تفسير السعدي)) (ص: ٦٩٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>