للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري، فقد جاء فيه: ((يعذب ببعض بكاء أهله عليه)) (١). ولا يعذب بكل البكاء، فالبكاء الذي تدمع فيه العين، ولا شق، ولا لطم معه لا يؤاخذ صاحبه به، وقد جاءت في ذلك نصوص كثيرة. وقد تعرض العلامة ابن تيمية للمسألة وضعف مذهب البخاري والقرطبي وابن عبدالبرَّ ومن سلك مسلكهم في فقه الأحاديث التي أخبرت أن الميت يعذب ببكاء الحي، فقد قال رحمه الله تعالى بعد أن ذكر النصوص الواردة في ذلك: (وقد أنكر ذلك طوائف من السلف والخلف، واعتقدوا أن ذلك من باب تعذيب الإنسان بذنب غيره، فهو مخالف لقوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: ١٨]، ثم تنوعت طرقهم في تلك الأحاديث الصحيحة.

فمنهم من غلَّط الرواة لها، كعمر بن الخطاب وغيره، وهذه طريقة عائشة والشافعي، وغيرهما. ومنهم من حمل ذلك على ما إذا أوصى به فيعذب على إيصائه، وهو قول طائفة كالمزني، وغيره.

ومنهم من حمل ذلك على ما إذا كان عادتهم، فيعذب على ترك النهي عن المنكر، وهو اختيار طائفة منهم جدي أبو البركات، وكل هذه الأقوال ضعيفة جداً) (٢) وقد رد قول الذين ردوا هذه الأحاديث بنوع من التأويل، فقال: (والأحاديث الصحيحة الصريحة التي يرويها مثل عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله، وأبو موسى الأشعري وغيرهم، لا ترد بمثل هذا، وعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لها مثل هذا نظائر، ترد الحديث بنوع من التأويل والاجتهاد لاعتقادها بطلان معناه، ولا يكون الأمر كذلك، ومن تدبر هذا الباب وجد هذا الحديث الصحيح الصريح الذي يرويه الثقة لا يرده أحد بمثل هذا إلا كان مخطئاً) (٣). ثم بين رحمه الله تعالى أن عائشة وقعت في مثل ما فرت منه، قال: (وعائشة رضي الله عنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظين – وهي الصادقة فيما نقلته – فروت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه)) (٤)، وهذا موافق لحديث عمر، فإنه إذا جاز أن يزيده عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذب غيره ابتداء ببكاء أهله، ولهذا رد الشافعي في (مختلف الحديث) هذا الحديث نظراً إلى المعنى، وقال الأشبه روايتها الأخرى: ((إنهم يبكون عليه، وإنه ليعذب في قبره)) (٥) (٦).

ورد قول الذين ظنوا أن الحديث يفيد معاقبة الإنسان بذنب غيره، فقال: (والذين أقروا هذا الحديث على مقتضاه، ظن بعضهم أن هذا من باب عقوبة الإنسان بذنب غيره، وأن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، واعتقد هؤلاء أن الإنسان يعاقب بذنب غيره، فجوزوا أن يدخل أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم) (٧) وبعد أن أطال النفس في هذه المسألة: مسألة دخول أولاد الكفار النار بذنوب آبائهم، وأن هذا ليس بصواب من القول، وأن الحق أن الله لا يعذب إلا من عصاه، وأن الذين لم يبتلوا يمتحنون في عرصات القيامة، قال: (وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: (يعذب)، والعذاب أعمُّ من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقاباً له على ذلك السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((السفر قطعة من العذاب، يمْنَعُ أحدكم طعامه وشرابه)) (٨)، فسمى السفر عذاباً، وليس هو عقاباً.


(١) الحديث لفظه لمسلم (٩٢٧)، ورواه البخاري (١٢٨٦) بلفظ: ((إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ٣٧٠).
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ٣٧٠).
(٤) رواه مسلم (٩٢٩).
(٥) رواه مسلم (٩٣١).
(٦) ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ٣٧١).
(٧) ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ٣٧١).
(٨) رواه البخاري (١٨٠٤)، ومسلم (١٩٢٧). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>