للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإنسان يعذب بالأمور المكروهة التي يشعر بها، مثل الأصوات الهائلة، والأرواح الخبيثة، والصور القبيحة، فهو يتعذب بسماع هذا وشَمِّ هذا، ورؤية هذا، ولم يكن ذلك عملاً له عوقب عليه، فكيف ينكر أن يعذب الميت بالنياحة، وإن لم تكن النياحة عملاً له، يعاقب عليه؟

والإنسان في قبره يعذب بكلام بعض الناس، ويتألم برؤية بعضهم، وبسماع كلامهم، ولهذا أفتى القاضي أبو يعلى بأن الموتى إذا عمل عندهم المعاصي فإنهم يتألمون بها، كما جاءت بذلك الآثار، فتعذبهم بعمل المعاصي عند قبورهم كتعذيبهم بنياحة من ينوح عليهم، ثم النياحة سبب العذاب) (١).

وهذا الفقه الذي صار إليه الشيخ العلامة جاءت بعض الأحاديث دالة عليه، فعن النعمان بن بشير، قال: ((أغمي على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فجعلت أخته عمرة تبكي: واجبلاه، واكذا، واكذا، تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي، أنت كذلك؟! فلما مات لم تبك عليه)) (٢)، بل إن هذا المعنى ورد صريحاً في الحديث الذي يرويه أبو موسى الأشعري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من ميت يموت، فيقوم باكيه، فيقول: واجبلاه! واسيداه! أو نحو ذلك، إلا وكل به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت)) رواه الترمذي. وقال: هذا حديث حسن غريب (٣)، وقال الحافظ في (التلخيص) بعد سياقه لهذا الحديث: (ورواه الحاكم وصححه، وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير) (٤). وينبغي أن ينبه هنا أنه ليس كل ميت يناح عليه يعذب بالنياح عليه، فقد يندفع حكم السبب بما يعارضه – كما يقول ابن تيمية – كما يكون في بعض الناس من القوة ما يدفع ضرر الأصوات الهائلة، والأرواح والصور الخبيثة. ثم ذكر أن أحاديث الوعيد يذكر فيها السبب، وقد يتخلف موجبه لموانع تدفع ذلك، إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته. وبين في خاتمة كلامه أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفر الله به عن سيئاته (٥). القيامة الصغرى لعمر بن سليمان الأشقر - ص ٦٢


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ٣٧١).
(٢) رواه البخاري (٤٢٦٨).
(٣) رواه الترمذي (١٠٠٣). وقال: هذا حديث حسن غريب، وصححه ابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (٢/ ٣٨٥)، وقال ابن حجر في ((التلخيص الحبير)) (٢/ ١٤٠): ورواه الحاكم وصححه وشاهده في الصحيح عن النعمان بن بشير، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)).
(٤) ((التلخيص الحبير)) لابن حجر (٢/ ١٤٠).
(٥) ((مجموع الفتاوى)) (٢٤/ ٣٧٥).

<<  <  ج: ص:  >  >>