للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتلخص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها: أرواح في أعلى عليين، في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم متفاوتون في منازلهم. ومنها أرواح في حواصل طير خضر، تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء، لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه. كما في (المسند) عن عبدالله بن جحش: ((أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة، فلما ولى، قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفا)) (١). ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)) (٢) ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون في الأرض، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم. وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره، في قوله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:١٦٩]، وقوله تعالى: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ [البقرة:١٥٤] فهي: أن الله تعالى: جعل أرواحهم في أجواف طير خضر. كما في حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أصيب إخوانكم، يعني يوم أحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظلة في ظل العرش)) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود (٣)، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم (٤). فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها، تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها. ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير، أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير. وتأمل لفظ الحديثين، ففي (الموطأ) أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه)) (٥). فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: هي في جوف طير خضر، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، كما روي في (السنن) (٦). وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم. وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل، والشهيد أفضل، كان بقاء جسده أطول. شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي - بتصرف - ٢/ ٥٨٢


(١) رواه أحمد (٤/ ١٣٩) (١٧٢٩٢)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (٣/ ٢٣) والطبراني (١٩/ ٢٤٧). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٤/ ١٢٧): رواه أحمد وفيه أبو كثير وهو مستور وبقية رجاله موثقون. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (٤٥٣): صحيح.
(٢) رواه بنحوه أحمد (٥/ ١١) (٢٠١٣٦)، والطبراني في ((الأوسط)) (٣/ ٢٤٤). قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٤/ ١٢٩): رواه الطبراني في ((الأوسط)) وفيه أسلم بن سهل الواسطي قال الذهبي: لينه الدارقطني، وهذه عبارة سهلة في التضعيف وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في ((شرح العقيدة الطحاوية)) (٤٥٥): صحيح.
(٣) رواه أبو داود (٢٥٢٠)، وأحمد (١/ ٢٦٥) (٢٣٨٨)، والحاكم (٢/ ٩٧). والحديث سكت عنه أبو داود. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)): حسن.
(٤) انظر: صحيح مسلم (١٨٨٧).
(٥) رواه مالك في ((الموطأ)) (٢/ ٣٣٧) بلفظ: (طير) بدلاً من (طائر). والحديث رواه النسائي (٤/ ١٠٨)، وابن ماجه (٤٢٧١)، وأحمد (٣/ ٤٥٥) (١٥٨١٦). قال ابن عبد البر في ((الاستذكار)) (٢/ ٦١٤)، وابن العربي في ((عارضة الأحوذي)) (٤/ ١٢٥)، وابن حجر في ((توالي التأسيس)) (١/ ٢٠٣)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.
(٦) الحديث روي في ((السنن)) بلفظ: ((إن الله عزوجل حرم على الأرض أجساد الأنبياء)). رواه أبو داود (١٠٤٧)، والنسائي (٣/ ٩١)، وابن ماجه (١٦٣٦). قال الحاكم (١/ ٤١٣): هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)): صحيح.

<<  <  ج: ص:  >  >>