للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الحسن: ولقد قال الله تعالى في كتابه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِيَّتَهُمْ [الأعراف:١٧٢] قالوا ولهذا قال تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ ولم يقل من آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ ولم يقل من ظهره ذُرِيَّتَهُمْ أي جعل نسلهم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن كقوله تعالى: وَهُوَ الذِّي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فيِ الأَرْض [الأنعام:١٦٥] وقال: وَيَجْعَلَكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْض [النمل:٦٢] وقال تعالى: كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَةِ قَوْمٍ آخَرِين [الأنعام:١٣٣] ثم قال تعالى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالا, قال الشهادة تكون بالقول كقوله تعالى: قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا [الأنعام:١٣٠] الآية وتارة تكون حالا كقوله تعالى: مَا كَانَ للمُشْرِكِينَ أَنْ يُعَمِّرُوا مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالكُفْر [التوبة: ١٧] أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك, وكذا قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيد [العاديات: ٧] كما أن السؤال تارة يكون بالمقال, وتارة يكون بالحال كقوله تعالى: وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوه [إبراهيم: ٣٤] معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي - ص٩٣

وقال ابن تيمية رحمه الله في معرض كلامه على إقرار الناس بفطرهم على وجود الخالق سبحانه وتعالى: ولهذا كان أكثر الناس على أن الإقرار بالصانع ضروري فطري وذلك أن اضطرار النفوس إلى ذلك أعظم من اضطرارها إلى ما لا تتعلق به حاجتها ألا ترى أن الناس يعرفون من أحوال من تتعلق به منافعهم ومضارهم كولاة أمورهم ومماليكهم وأصدقائهم وأعدائهم مالا يعلمونه من أحوال من لا يرجونه ولا يخافونه ولا شيء أحوج إلى شيء من المخلوق إلى خالقه فهم يحتاجون إليه من جهة ربوبيته إذ كان هو الذي خلقهم وهو الذي يأتيهم بالمنافع ويدفع عنهم المضار: وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: ٥٣]

وكل ما يحصل من أحد فإنما هو بخلقه وتقديره وتسبيبه وتيسيره وهذه الحاجة التي توجب رجوعهم إليه حال اضطرارهم كما يخاطبهم بذلك في كتابه وهم محتاجون إليه من جهة ألوهيته فإنه لا صلاح لهم إلا بأن يكون هو معبودهم الذي يحبونه ويعظمونه ولا يجعلون له أندادا يحبونهم كحب الله بل يكون ما يحبونه سواه كأنبيائه وصالحي عباده إنما يحبونهم لأجله كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)) (١) ومعلوم أن السؤال والحب والذل والخوف والرجاء والتعظيم والاعتراف بالحاجة والافتقار ونحو ذلك مشروط بالشعور بالمسئول المحبوب المرجو المخوف المعبود المعظم الذي تعترف النفوس بالحاجة إليه والافتقار الذي تواضع كل شيء لعظمته واستسلم كل شيء لقدرته وذل كل شيء لعزته فإذا كانت هذه الأمور مما تحتاج النفوس إليها ولا بد لها منها بل هي ضرورية فيها كان شرطها ولازمها وهو الاعتراف بالصانع به أولى أن يكون في النفوس وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((كل مولود يولد على الفطرة)) (٢) ويروي عن ربه: ((خلقت عبادي حنفاء)) (٣) ونحو ذلك لا يتضمن مجرد الإقرار بالصانع فقط بل إقرارا يتبعه عبودية لله بالحب والتعظيم وإخلاص الدين له وهذا هو الحنيفية وأصل الإيمان قول القلب وعمله أي علمه بالخالق وعبوديته للخالق والقلب مفطور على هذا وهذا وإذا كان بعض الناس قد خرج عن الفطرة بما عرض له من المرض إما بجهله وإما بظلمه فجحد بآيات الله واستيقنتها نفسه ظلما وعلوا لم يمتنع أن يكون الخلق ولدوا على الفطرة درء تعارض العقل والنقل لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية - ٢/ ٢٤


(١) رواه البخاري (١٦)، ومسلم (٤٣). من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٢) رواه البخاري (١٣٥٨)، ومسلم (٢٦٥٨). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٣) رواه مسلم (٢٨٦٥). من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>