للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وحاور عمر بن عبد العزيز غيلان الدمشقي أحد رؤوس الاعتزال، فقال له عمر: يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر. فقال: يَكْذِبون عليَّ يا أمير المؤمنين. قال: اقرأ عليَّ سورة (يس). قال: فقرأ عليه: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْمًا ما أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس:١ - ٩]. قال غيلان: لا والله لكأني يا أمير المؤمنين لم أقرأها قط إلا اليوم. أشهد يا أمير المؤمنين أني تائب من قولي بالقدر. فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً فتب عليه، وإن كان كاذباً فاجعله آية للمؤمنين (١). قال معاذ بن معاذ: حدثني صاحب لي قال: مرَّ التيمي بمنزل ابن عون فحدثه بهذا الحديث، قال ابن عون: أنا رأيته مصلوباً بدمشق (٢). وقال أبو جعفر الخطمي: شهدت عمر بن عبد العزيز وقد دعا غيلان لشيء بلغه في القدر فقال له: ويحك يا غيلان ما هذا الذي بلغني عنك؟ قال: يُكْذَبُ عليَّ يا أمير المؤمنين، يقال عليَّ ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم؟ قال: نفذ العلم. قال: أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت. يا غيلان، إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحد فتكفر. ثم قال له: أتقرأ (يس)؟ فقال: نعم. قال: اقرأ. قال: فقرأ يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس: ١ - ٧]. قال: قف كيف ترى؟ قال: كأني لم أقرأ هذه الآية يا أمير المؤمنين. قال: زد. فقرأ: إِنا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [يس: ٨ - ٩]. فقال له عمر: قل وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [يس:٩ - ١٠]. قال: كيف ترى؟. قال: كأني لم أقرأ هذه الآيات قط، وإني أعاهد الله أن لا أتكلم في شيء مما كنت أتكلم فيه أبداً. قال: اذهب. فلما ولىَّ قال: اللهم إن كان كاذباً بما قال فأذقه حر السلاح. قال: فلم يتكلم زمن عمر، فلما كان يزيد بن عبد الملك كان رجلاً لا يهتم بهذا ولا ينظر فيه. قال: فتكلم غيلان. فلما ولي هشام أرسل إليه فقال له: أليس قد كنت عاهدت الله لعمر لا تتكلم في شيء من هذا أبداً؟ قال: أقلني، فوالله لا أعود. قال: لا أقالني الله إن أقلتك، هل تقرأ فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قال: اقرأ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فقرأ: الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِياكَ نَعْبُدُ وإِياكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٢ - ٥]. قال: قف. على ما استعنته؟ على أمر بيده لا تستطيعه، أو على أمر في يدك أو بيدك؟ اذهبا فاقطعا يديه ورجليه واضربا عنقه واصلباه. والقدرية النفاة حُرموا الاستعانة بالله الواحد الأحد، لأنهم زعموا أن الله لا يقدر على أفعال العباد، وأن العبد هو الخالق لفعله، فكيف يستعينون بالله على مالا يقدر عليه.


(١) انظر: ((الشريعة)) للآجري (ص١٣٨).
(٢) رواه الهيثمي في ((غاية المقصد)) (٢/ ٧٧٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>