للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورأى آخر رجلاً يفجر بزوجته، فأقبل يضربها وهي تقول: القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أوَّه تركت السنة، وأخذت بمذهب ابن عباس. فتنبه، ورمى بالسوط من يده، واعتذر إليها، وقال: لولا أنت لضللت. ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاء الله وقدره. فقال: الخيرة فيما قضى الله. فلقب بالخيرة فيما قضى الله. ولو كان الاحتجاج بالقدر صحيحاً لأمكن لكل واحد أن يقتل ويفسد ويأخذ الأموال ويظلم العباد، فإذا سئل عن أفعاله احتج بالقدر، وكل العقلاء يعلمون بأن هذه الحجة مرفوضة غير مرضية، وإلا فإن الحياة تفسد. وكثير من الذين يحتجون بالقدر لظلمهم وفسقهم وضلالهم يثورون إذا ما وقع عليهم الظلم، ولا يرضون من غيرهم أن يحتج على ظلمه لهم بالقدر. إن المنهج الذي فقهه علماؤنا عن ربنا ونبينا أنه يجب علينا أن نؤمن بالقدر، ولكن لا يجوز لنا أن نحتج به على ترك العمل، كما لا يجوز لنا أن نحتج به على مخالفتنا للشرع، وإنما يحتج بالقدر على المصائب دون المعايب. يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى (١): العبد له في المقدور حالان: حال قبل القدر وحال بعد القدر. فعليه قبل المقدور أن يستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه، فإذا قدر المقدور بغير فعله فعليه أن يصبر عليه أو يرضى به، وإن كان بفعله وهو نعمة حمد الله على ذلك، وإن كان ذنباً استغفر إليه من ذلك. وله في المأمور حالان: حال قبل الفعل، وهو العزم على الامتثال والاستعانة بالله على ذلك، وحال بعد الفعل وهو الاستغفار من التقصير وشكر الله على ما أنعم به من الخير. قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [غافر:٥٥] أمره أن يصبر على المصائب المقدرة، ويستغفر من الذنب. وقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:١٨٦]. وقال يوسف: إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:٩٠]. فذكر الصبر على المصائب والتقوى بترك المعايب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)) (٢). إن العبد المؤمن الحصيف لا يترك العمل بدعوى أنَّ قدر الله ماض فيه، بل الواجب عليه أن يأخذ الأمر بقوة، يعلم ما يطلبه الله، ويفكر فيما يفيده وينفعه، ثم يبذل قصارى جهده في القيام بأمر الله، وبالأخذ بالأسباب للأمور التي يظن أن فيها نفعه وصلاحه، فإذا لم يوفق فلا يقضي وقته بالتحسر والتأسف، وإنما يقول في هذا الموضع قدر الله وما شاء فعل. إن الإيمان بالقدر والاحتجاج به يأتي لمعالجة المشكل النفسي الذي يذهب الطاقة الإنسانية ويبددها في حال الفشل والإخفاق، ولا يكون مانعاً من العمل والإبداع في مقبل الزمان.

استدلالهم بحديث احتجاج آدم بالقدر:

وقد يستدل من قلَّ عمله بحديث احتجاج آدم وموسى على الاحتجاج بالقدر في المعايب، وهو حديث صحيح روته كتب (الصحاح)، و (السنن).


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٨/ ٧٦).
(٢) رواه مسلم (٢٦٦٤). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>