للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى. قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أُهبط الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً. قال آدم: فهل وجدت فيها: وعصى آدم ربه فغوى؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله فحج آدم موسى)) (١).

وليس في هذا الحديث حجة للذين يحتجون بالقدر على القبائح والمعايب، فآدم عليه السلام لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وموسى عليه السلام لم يلم أباه آدم على ذنب تاب منه، وتاب الله عليه منه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم من موسى على المصيبة التي أخرجت آدم وأولاده من الجنة.

فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فإن القدر يحتج به عند المصائب لا عند المعايب.

فعلى العبد أن يستسلم للقدر إذا أصابته مصيبة الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنا لِلّهِ وَإِنا إِلَيْهِ رَاجِعونَ [البقرة:١٥٦]، أما المذنبون فليس لهم الاحتجاج بالقدر، بل الواجب عليهم أن يتوبوا ويستغفروا فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ [غافر:٥٥] فأرشد إلى الصبر في المصائب والاستغفار من الذنوب والمعايب.

والله ذم إبليس لا لاعترافه بالمقدر في قوله: قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي [الحجر:٣٩]، وإنما على احتجاجه بالقدر.

وأجاب ابن القيم عن الإشكال الذي وقع في حديث احتجاج آدم بالقدر بجواب آخر فقال: الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتج به بعد وقوعه والتوبة منه، وترك معاودته، كما فعل آدم، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الرب وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع، لأنه لا يدفع بالقدر أمراً ولا نهياً، ولا يبطل به شريعة، بل يخبر بالحق المحض على وجه التوحيد والبراءَة من الحول والقوة. يوضحه أن آدم قال لموسى: أتلومني على أن عملت عملاً كان مكتوباً عليَّ قبل أن أخلق؟ فإذا أذنب الرجل ذنباً ثم تاب منه توبة، وزال أمره حتى كأن لم يكن، فأنَّبهُ عليه ولامه، حسن منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك ويقول: هذا أمر كان قد قدر علي قبل أن أخلق، فإنه لم يدفع بالقدر حقاً، ولا ذكره حجة له على باطل ولا محظور في الاحتجاج به. وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به، ففي حال المستقبل بأن يرتكب فعلاً محرماً أو يترك واجباً، فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه، وإصراره، فيبطل به حقاً، ويرتكب به باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله. (٢) الإيمان بالقضاء والقدر لعمر بن سليمان الأشقر - ص٨٧


(١) رواه البخاري (٣٤٠٩)، ومسلم (٢٦٥٢).
(٢) انظر: ((شفاء العليل)) (ص١٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>