للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الشوكاني في تفسير آية يونس المتقدمة: (وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ... وبيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما يشابهها، فيا عجباً لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا لله كما فعله المشركون!) (١).

فإذا صفا الفكر واستيقظت الفطرة أيقن الإنسان أنه لا يعبد إلا الله وحده في جميع أنواع العبادات، وبمثل هذا كان قد أسلم عكرمة بن أبي جهل فقد روى سعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه – ما حاصله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أهدر يوم الفتح دم جماعة منهم عكرمة بن أبي جهل هرب من مكة وركب البحر، فأصابهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئاً – فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره، اللهم إن لك عهداً إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمداً حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفواً كريماً فجاء فأسلم) (٢). اهـ

وأما المسألة الثانية: وهي أنه لا حجة للمشركين ولا برهان لهم في الشرك (٣): فهذا نوع من الأدلة العامة التي تبطل على المشركين عبادتهم لغير الله وتلزمهم بإفراد العبادة لله جل وعلا. فإن المشركين قد طولبوا بإقامة الدليل والبرهان على شركهم فعجزوا عن ذلك. وأخبر الله أنهم إنما يستندون في ذلك على تقليد آبائهم الضالين ويتبعون الظن الذي لا يدل على الحق بأي حال. ثم إن الله تعالى يخاطب المشركين بأسلوب فيه ترهيب عسى أن يعودوا إلى صوابهم. فيخبرهم أنهم سيسألون الحجة والبرهان على شركهم يوم القيامة فيعجزون هناك، ويعلمون علم اليقين أنهم كانوا على باطل ويندمون على شركهم وتعنتهم ولات حين مندم.

فمن الآيات الدالة على أنه لا حجة للمشركين في شركهم سوى الظن: قول الله تعالى: أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [يونس: ٦٦] قال الحافظ ابن كثير: (ثم أخبر تعالى أن له ملك السموات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً ولا ضراً ولا نفعاً ولا دليل لهم على عبادتهم بل إنما يتبعون في ذلك ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم) (٤).

ومن هذه الآيات ما قصه الله عن أصحاب الكهف فقال: هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف: ١٥] قال ابن جرير في قوله: لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف: ١٥]: (هلا يأتون على عبادتهم إياها بحجة بينة) وقال الشيخ محمد الأمين: (لَّوْلَا في الآية الكريمة للتحضيض، وهو الطلب بحث وشدة، والمراد بهذا الطلب التعجيز لأنه من المعلوم أنه لا يقدر أحد أن يأتي بسلطان بين على جواز عبادة غير الله تعالى، والمراد بالسلطان البين: الحجة الواضحة) (٥).


(١) ((فتح القدير)) (٢/ ٤٣٥).
(٢) رواه النسائي (٧/ ١٠٥). وصحح إسناده عبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الصغرى)) (٥٤٩) كما أشار في المقدمة. وابن القيم في ((زاد المعاد)) (٣/ ١١٠). وقال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (٦/ ١٧١): رجاله ثقات. وصححه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (٤٠٧٨).
(٣) انظر: ((أضواء البيان)) (٤/ ٣٠ - ٣٢).
(٤) ((تفسير ابن كثير)) (٢/ ٤٢٤).
(٥) ((أضواء البيان)) (٤/ ٣١).

<<  <  ج: ص:  >  >>