للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأخيراً نقول: إن الأفعال نفسها تسمى تصديقاً، كما ثبت في (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى ذلك ويشتهي، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (١). وكذلك قال أهل اللغة وطوائف من السلف والخلف (٢).

قال الجوهري: (والصديق مثال الفسيق: الدائم التصديق، ويكون الذي يصدق قوله بالعمل) (٣).

وقال الحسن البصري: (ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال) (٤).

وقال سعيد بن جبير: (والتصديق أن يعمل العبد بما صدق به من القرآن، وما ضعف عن شيء منه وفرط فيه، عرف أنه ذنب، واستغفر الله وتاب منه ولم يصر عليه، فذلك هو التصديق) (٥).

وقال الأوزاعي: (والإيمان بالله باللسان، والتصديق به العمل) (٦).

وهكذا نرى أن الإيمان - وإن كان أصله التصديق - فهو تصديق مخصوص، كما أن الصلاة دعاء مخصوص، والحج قصد مخصوص، والصيام إمساك مخصوص، وهذا التصديق له لوازم صارت لوازمه داخلة في مسماه عند الإطلاق، فإن انتفاء اللازم يقتضي انتفاء الملزوم، ويبقى النزاع لفظياً: هل الإيمان دال على العمل بالتضمن أو باللزوم؟ (٧). حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة لمحمد عبدالهادي المصري - بتصرف – ص: ٢٣

ذهب كثير من المتكلمين وغيرهم؛ بل هو العُمدة عند جماهير المرجئة أن الإيمان في مفهوم اللغة العربية هو مجرد التصديق، استدلالاً بقوله تعالى في أول سورة يوسف: وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف: ١٧].

الصواب: أن معنى الإيمان في اللغة ليس مرادفاً للتصديق، بل التصديق وزيادة، من الإقرار والإذعان والتسليم ونحوها، لعدة اعتبارات.

أن معنى الآية في الحقيقة: ما أنت بمُقر لنا ولا تطمئن إلى قولنا ولا تثق به ولا تتأكد منه ولو كناَّ صادقين، فإنهم لو كانوا كذلك فصدقهم، لكنه لم يتأكد ولم يطمئن إلى قولهم. وهذه بلاغة في اللغة.

أن لفظة الإيمان يقابلها الكفر، وهو ليس التكذيب فقط بل قدر زائد عليه، وإنما الكذب يقابل لفظة التصديق.

فلما كان الكفر في اللغة ليس مقصوراً على التكذيب، فكذلك ما يقابل الكفر وهو الإيمان لا يقابل التصديق، وليس مقصوراً عليه.

أن لفظ الإيمان لا يستعمل في جميع الأخبار المشاهدة وغيرها، وإنما يُستعمل في الأمور الغائبة مما يدخلها الريب والشك، فإذا أقر بها المستمع قيل آمن، بخلاف التصديق، فإنه يتناول الإخبار عن الغائب والشاهد، وإخوة يوسف أخبروا أباهم عن غائب غير مشاهد فصح أن الإيمان أخص من التصديق.

أن لفظ الإيمان تكرر في الكتاب والسنة كثيراً جداً، وهو أصل الدين الذي لا بد لكل مسلم من معرفته، فلابد أن يؤخذ معناه من جميع موارده التي ورد فيها في الوحيين لا من آية واحدة؛ الاحتمالُ مُتطرق إلى دلالتها!

أن الإيمان مخالف للتصديق في الاستعمال اللغوي وفي المعنى:

فأما اللغة فقد مضت في الجواب الثالث؛ فالاستعمال اللغوي للإيمان يُتعدى فيه إلى المُخبِر باللام وإلى المُخبَر عنه بالباء كقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الأعراف: ١٥٨].


(١) رواه البخاري (٥٨٨٩)، ومسلم (٦٩٢٤)، وأحمد (٢/ ٣٤٣) (٨٥٠٧) واللفظ له. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٢٧٨).
(٣) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٢٧٨).
(٤) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٢٧٨).
(٥) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٢٧٩).
(٦) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٢٨٠).
(٧) ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: ٢٨١).

<<  <  ج: ص:  >  >>