للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمتتبع لأقوال الأئمة في هذا الأمر يلاحظ مدى تعدد اجتهاداتهم في اعتبار أو رفض الدلالات المختلفة التي تعبر عن تحقق مدلول الشهادتين، وذلك حسب حال القائل، والظروف والملابسات المختلفة التي تحيط به مما يؤكد على هذه الحقيقة وهي أن العبرة دائماً بالحقائق والمعاني والدلالات وليس بالألفاظ المجردة.

يقول الإمام ابن القيم: (وقد اختلف أئمة الإسلام في الكافر إذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله ولم يزد، هل يحكم بإسلامه بذلك؟ على ثلاثة أقوال وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد. أحدها يحكم بإسلامه بذلك، والثانية لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بشهادة أن لا إله إلا الله، والثالثة أنه إذا كان مقرا بالتوحيد حكم بإسلامه، وإن لم يكن مقرا لم يحكم بإسلامه حتى يأتي به) اهـ (١).

ويقول البدر العيني: (وإذا نطق بهما لم يشترط معهما أن يقول: أنا بريء من كل دين خالف دين الإسلام على الأصح، إلا أن يكون من كفار يعتقدون اختصاص الرسالة بالعرب، ولا يحكم بإسلامه حتى يتبرأ. ومن أصحابنا من اشترط التبرؤ مطلقاً، وهو غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)) (٢). ومنهم من استحبه مطلقاً كالاعتراف بالبعث.

أما إذا اقتصر الكافر على قوله لا إله إلا الله، ولم يقل: محمد رسول الله، فالمشهور من مذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يكون مسلماً. ومن أصحابنا من قال: يصير مسلماً ويطالب بالشهادة الأخرى، فإن أبى جعل مرتداً. وحجة الجمهور الرواية السالفة، وهي مقدمة على هذه، لأنها زيادة من ثقة، وليس فيها نفي للشهادة الثانية، وإنما فيها تنبيه على الأخرى.

وأغرب القاضي حسين فشرط في ارتفاع السيف عنه أن يقر بأحكامها مع النطق بها، فأما مجرد قولها فلا، وهو عجيب منه.

وقال النووي: اشترط القاضي أبو الطيب من أصحابنا الترتيب بين كلمتي الشهادة في صحة الإسلام، فيقدم الإقرار بالله على الإقرار برسوله، ولم أر من وافقه ولا من خالفه.

وذكر الحليمي في منهاجه ألفاظاً تقوم مقام لا إله إلا الله، في بعضها نظر لانتفاء ترادفها حقيقة، فقال: ويحصل الإسلام بقوله: لا إله غير الله، ولا إله سوى الله أم ما عدا الله، ولا إله إلا الرحمن أو البارئ، أو لا رحمن أو لا بارئ إلا الله، أو لا ملك أو لا رزاق إلا الله، وكذا لو قال: لا إله إلا العزيز أو العظيم أو الحكيم أو الكريم. وبالعكس قال: لو قال: أحمد أبو القاسم رسول الله فهو كقوله: محمد) اهـ (٣).

ويقول الشوكاني: (وعن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر، ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى إذا أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره، فقال: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((اللهم إني أبرأ مما صنع خالد، ومرتين)) رواه أحمد والبخاري (٤). وهو دليل على أن الكناية مع النية كصريح لفظ الإسلام.

قوله: صبأنا صبأنا، أي دخلنا في دين الصابئة، وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئاً، وكأنهم قالوا: أسلمنا أسلمنا ... وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلماً بالتكلم بالشهادتين ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح ...


(١) ((زاد المعاد)) (٢/ ٤٢).
(٢) رواه البخاري (٢٥)، ومسلم (١٣٨). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(٣) ((عمدة القاري)) (١/ ١١٠، ١١١).
(٤) رواه أحمد (٢/ ١٥٠) (٦٣٨٢)، والبخاري (٤٠٨٤). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>