للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(وليس التوحيد مجرد إقرار العبد بأنه لا خالق إلا الله، وأن الله رب كل شيء ومليكه - كما كان عباد الأصنام مقرين بذلك وهم مشركون، بل التوحيد يتضمن من محبة الله، والخضوع له، والذل له وكمال الانقياد لطاعته، وإخلاص العبادة له، وإرادة وجهه الأعلى بجميع الأقوال والأعمال، والمنع، والعطاء، والحب، والبغض - ما يحول بين صاحبه وبين الأسباب الداعية إلى المعاصي والإصرار عليها، ومن عرف هذا عرف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله)) (١) وما جاء من هذا الضرب من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود وقال: المعنى لا يدخلها خالدا، ونحو ذلك من التأويلات المستكرهة) (٢).

(والشارع - صلوات الله وسلامه عليه - لم يجعل ذلك حاصلا بمجرد قول اللسان فقط، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين لها في الدرك الأسفل من النار، فلا بد من قول القلب وقول اللسان.

وقول القلب: يتضمن معرفتها، والتصديق بها، ومعرفة حقيقة ما تضمنته من النفي والإثبات، ومعرفة حقيقة الإلهية المنفية عن غير الله، المختصة به، التي يستحيل ثبوتها لغيره، وقيام هذا المعنى بالقلب، علما ومعرفة ويقينا وحالا - ما يوجب تحريم قائلها على النار، وكل قول رتب الشارع ما رتب عليه من الثواب، فإنما هو القول التام - كقوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائه مرة حطت عنه خطاياه – أو غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر)) (٣) وليس هذا مرتبا على مجرد اللسان. نعم من قالها بلسانه، غافلا عن معناها، معرضا عن تدبرها، ولم يواطئ قلبه لسانه، ولا عرف قدرها وحقيقتها، راجيا من ذلك ثوابها حطت من خطاياه بحسب ما في قلبه، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض، والرجلان يكون مقامهما في الصف واحدا وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض.

وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات، فلا يعذب (٤).

ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات، لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات انفردت بطاقته بالثقل والرزانة.

وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى فانظر إلى ذكر من قلبه ملآن بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساه، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قلبه إلى محبه غيرك وإيثاره عليك، وهل يكون ذكرهما واحدا؟ أم هل يكون ولداك اللذان هما بهذه المثابة، أو عبداك، أو زوجتاك، عندك سواء؟

وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته – وهو في تلك الحال – على أن جعل ينوء بصدره ويعالج سكرات الموت. فهذا أمر آخر، وإيمان آخر. ولا جرم أن ألحق بالقرية الصالحة وجعل من أهلها.

وقريب من هذا: ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب وقد اشتد به العطش يأكل الثرى، فقام بقلبها ذلك الوقت – مع عدم الآلة، وعدم المعين، وعدم من ترائيه بعملها – ما حملها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، وملء الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها خفها بفيها وهو ملآن، وحتى أمكنها الرقى من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، ومن غير أن ترجو منه جزاء ولا شكورا، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء، فغفر لها.

فهكذا الأعمال والعمال عند الله، والغافل في غفلة من هذا الإكسير الكيماوي، الذي إذا وضع منه مثقال ذرة على قناطير من نحاس الأعمال قلبها ذهبا والله المستعان) (٥) ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي لسفر الحوالي – ٢/ ٥٣٤


(١) رواه البخاري (٤٢٥)، ومسلم (٣٣). من حديث عتبان بن مالك السالمي رضي الله عنه.
(٢) ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٣٠).
(٣) رواه البخاري (٦٤٠٥)، ومسلم (٢٦٩١). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٤) حديث البطاقة رواه الترمذي (٢٦٣٩)، وابن ماجه (٣٤٨٨)، وأحمد (٢/ ٢١٣) (٦٩٩٤)، والحاكم (١/ ٤٦). من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. قال الترمذي، والبغوي في ((شرح السنة)) (٧/ ٤٩٠): حسن غريب، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح لم يخرج في الصحيحين وهو صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وابن الملقن في ((شرح صحيح البخاري)) (٣٣/ ٥٩٥)، وحسنه ابن حجر في ((تخريج مشكاة المصابيح)) (٥/ ١٧٣) كما أشار لذلك في المقدمة، وصححه السفاريني الحنبلي في ((لوائح الأنوار السنية)) (٢/ ١٩٧)، وقال المناوي في ((تخريج أحاديث المصابيح)) (٥/ ٢٢): رجاله موثقون، وقال الشوكاني في ((فتح القدير)) (٢/ ٢٧٣): حسن.
(٥) ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٣١ - ٣٣٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>