للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذان هما نوعا التوحيد الذي جاءت به الرسل وأنزل الله به الكتب، وشهادة أن لا إله إلا الله - التي هي رأس الأعمال وأول واجب على العبد - إنما هي إنشاء للالتزام بهذين النوعين ومن ثم سميت كلمة التوحيد، ومن هنا كان أجهل الناس بالتوحيد من ظن أن المطلوب بقول: لا إله إلا الله هو التلفظ بها باللسان فقط.

... أن كل عمل من أعمال الإنسان الظاهرة - على اللسان أو الجوارح - لا بد أن يكون تعبيرا عما في القلب وتحقيقا له ومظهرا لإرادته وإلا كان صاحبه منافقا النفاق الشرعي أو العرفي وأخص من ذلك العبادات، فكل عبادة قولية وفعلية لا بد أن يقترن بها من عمل القلب وما يفرق بينها وبين أفعال الجمادات أو الحركات اللاإرادية أو أفعال المنافقين.

فما بالك برأس العبادات وأعظمها، بل أعظم شيء في الوجود، الذي يرجح بالسموات والأرض وعامرهن غير الله تعالى: وهي شهادة أن لا إله إلا الله؟!

ولهذا يتفاوت قائلوا هذه الكلمة تفاوتا عظيما بحسب تفاوت ما في قلوبهم من التوحيد.

فلولا تفاوت أقوال القلوب وأعمالها - ولو أن المراد من كلمة الشهادة هو نطقها- لما كان لموحد فضل على موحد ولما كان لصاحب البطاقة- الآتي حديثه - فضل على سواه من قائليها، ولما كان لقائلها باللسان فضل عن قائلها بالقلب واللسان، ولما كان لمن قالها من خيار الصحابة السابقين فضل عن من قالها يتعوذ بها من السيف في المعركة.

وانظر إلى هذا الحوار بين العزيز الحكيم وبين عبده موسى الكليم، حيث قال موسى: ((يا رب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به، قال: قل يا موسى: لا إله إلا الله، قال كل عبادك يقولون هذا!!! – زاد في رواية: إنما أريد أن تخصني به – قال: يا موسى، لو أن السموات السبع – وعامرهن غيري – والأرضون السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفه مالت بهن لا إله إلا الله)) (١).

فكل المسلمين يقولون (لا إله إلا الله)، ولكن ما قائل كقائل، لأن ما في القلوب يتفاوت مثل تفاوت السماوات والأرض، والذرة التي لا تكاد ترى.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: (اعلم أن أشعة (لا إله إلا الله) تبدد من ضباب الذنوب وغيومها بقدرة قوة الشعاع وضعفه، فلها نور، وتفاوت أهلها في ذلك النور قوة وضعفا لا يحصيه إلا الله تعالى، فمن الناس: نور هذه الكلمة في قلبه كالشمس، ومنهم: من نورها في قلبه كالكوكب الدري، ومنهم: من نورها في قلبه كالمشعل العظيم، وآخر: كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف.

ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور هذه الكلمة، علما وعملا، ومعرفة وحالا.

وكلما عظم نور هذه الكلمة واشتد أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته وشدته، حتى إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف معها شبهة ولا شهوة ولا ذنبا إلا أحرقه، وهذا حال الصادق في توحيده الذي لم يشرك بالله شيئا فأي ذنب أو شهوة أو شبهة دنت من هذا النور أحرقها، فسماء إيمانه قد حرست بالنجوم من كل سارق لحسناته فلا ينال منها السارق إلا على غرة وغفلة لا بد منها للبشر، فإذا استيقظ وعلم ما سرق منه استنفذه من سارقه، أو حصل أضعافه بكسبه، فهو هكذا أبدا من لصوص الجن والإنس، ليس كمن فتح لهم خزانته وولى الباب ظهره) (٢).


(١) رواه النسائي في ((السنن الكبرى)) (٦/ ٢٠٩) (١٠٦٧٠)، وأبو يعلى في ((المسند)) (٢/ ٥٢٨) (١٣٩٣)، وابن حبان (١٤/ ١٠٢) (٦٢١٨)، والحاكم (١/ ٧١٠)،. من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (١٠/ ٨٥): رواه أبو يعلى ورجاله وثقوا وفيهم ضعف، وضعفه الألباني في ((ضعيف الترغيب والترهيب)) (٩٢٣).
(٢) ((مدارج السالكين)) (١/ ٣٢٩ - ٣٣٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>