للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعلى هذا يدل القرآن، كقوله: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران:٣١]، ووَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:٧]، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ [النساء:١٣٧]، فوصفهم بكفر بعد إيمان، وإيمان بعد كفر، وأخبر عن الذين كفروا أنهم كفار، وأنهم إن انتهوا يُغفر لهم ما قد سلف، وقال: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف:٥٥]، وقال: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:٢٨].

وفي الصحيحين في حديث الشفاعة، تقول الأنبياء: ((إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ)) (١) (٢).

وقال ابن حزم: (وأما قولهم: إن الله تعالى لا يسخط ما رضي، ولا يرضى ما سخط، فباطل وكذب، بل قد أمر الله تعالى اليهود بصيانة السبت وتحريم الشحوم، ورضي لهم ذلك، وسخط منهم خلافه، وكذلك أحل لنا الخمر، ولم يلزمنا الصلاة ولا الصوم برهة من زمن الإسلام، ورضي لنا شرب الخمر وأكل رمضان والبقاء بلا صلاة، وسخط تعالى بلا شك المبادرة بتحريم ذلك، كما قال تعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:١١٤]، ثم فرض علينا الصلاة والصوم، وحرم علينا الخمر، فسخط لنا ترك الصلاة وأكل رمضان وشرب الخمر، ورضي لنا خلاف ذلك، وهذا لا ينكره مسلم. ولم يزل الله تعالى عليما أنه سيحل ما كان أحل من ذلك مدة كذا، وأنه سيرضى منه، ثم أنه سيحرمه ويسخطه، وأنه سيحرم ما حرم من ذلك ويسخطه مدة، ثم أنه يحله ويرضاه، كما علم أنه سيحيي من أحياه مدة كذا، وأنه يعز من أعزه مدة، ثم يذله، وهكذا جميع ما في العالم من آثار صنعته لا يخفى ذلك على من له أدنى حس، وهكذا المؤمن يموت مرتدا، والكافر يموت مسلما؛ فإن الله تعالى لم يزل يعلم أنه سيسخطه فعل الكافر ما دام كافرا، ثم أنه يرضى عنه إذا أسلم، وأن الله تعالى لم يزل يعلم أنه يرضى عن أفعال المسلم وأفعال البر، ثم أنه يسخط أفعاله إذا ارتد أو فسق، ونص القرآن يشهد بذلك، قال تعالى: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:٧٨] فصح يقينا أن الله تعالى يرضى الشكر ممن شكره فيما شكره، ولا يرضى الكفر ممن كفر إذا كفر متى كفر كيف كان انتقال هذه الأحوال من الإنسان الواحد) (٣).

وبهذا يظهر الفرق بين من استثنى من السلف لأجل خوف العاقبة وتغيَّر الحال (٤)، وبين القول بالموافاة، الذي ذهب إليه الأشاعرة، وتضمَّن القولَ بأن الإيمان هو ما مات عليه العبد، وأن الإنسان إنما يكون عند الله مؤمنا وكافرا باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، وتضمن أيضا: أن حب الله وبغضه، ورضاه وسخطه وولايته وعداوته إنما يتعلق بالموافاة فقط.

وسر المسألة كما بين شيخ الإسلام أن الأشاعرة ينفون الأفعال الاختيارية، ويثبتون رضا ومحبة قديمة بمعنى الإرادة، وعندهم أن الله لا يرضى عن أحد بعد أن كان ساخطا عليه، ولا يفرح بتوبة عبد بعد أن تاب عليه، وأما أهل السنة فقد أخذوا بما دلت عليه النصوص من أن الله تعالى، يحب من شاء إذا شاء، ويرضى عمن شاء متى شاء، ويسخط عمن شاء، وقت ما يشاء، سبحانه، فمحبته ورضاه وسخطه صفات تتعلق بمشيئته.

والحاصل: أن القول بأن الإيمان هو ما وافى به العبد ربه، وتعليل الاستثناء بذلك، قول محدث، لا دليل عليه. وقد مضى ذكر الاعتبارات التي بنى عليها السلف قولهم في الاستثناء. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - ١/ ٢٤١


(١) رواه البخاري (٤٧١٢) ومسلم (١٩٤). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (١٦/ ٥٨٢) وما بعدها، وانظر: (١١/ ٦٢) وما بعدها.
(٣) ((الفصل)) لابن حزم (٤/ ٤٨) وما بعدها، وفيه رد قوي على الأشاعرة في هذه المسألة.
(٤) وهو أحد أوجه الاستثناء عند أهل السنة، كما سبق. انظر: (ص٩٣) من هذا البحث.

<<  <  ج: ص:  >  >>