للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال الدردير في شرحه على (الخريدة): (والمراد من تصديقه عليه الصلاة والسلام: الإذعان والقبول لما جاء به بحيث يقع عليه اسم التسليم من غير تكبر وعناد، لا مجرد وقوع نسبة الصدق إليه في القلب من غير إذعان وقبول حتى يلزم الحكم بإيمان كثير من الكفار (١) الذين كانوا عالمين بحقيقة نبوته عليه الصلاة والسلام وما جاء به؛ لأنهم لم يكونوا أذعنوا لذلك ولا قبلوه بحيث يطلق عليه اسم التسليم. وعلى هذا فالإيمان الشرعي هو حديث النفس التابع للمعرفة، أي الإدراك الجازم، بناء على الصحيح من أن إيمان المقلد صحيح. فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد، وهو حديث النفس المذكور، فيكون الإيمان فعلا من أفعال النفس، وليس من قبيل العلوم والمعارف، ويظهر من كلام بعضهم أنه الراجح) ثم ذكر ما ذهب إليه التفتازاني وكثير من المحققين من أن التصديق هو نفس الإدراك، فيكون من قبيل العلوم والمعارف (٢).

وفي (حاشية السيالكوتي على شرح المواقف)، بعد أن ذكر أن التصديق كسبي اختياري، قال: (والإيمان الشرعي يجب أن يكون من الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ادعى النبوة وأظهر المعجزة فوقع صدقه في قلب أحد ضرورة من غير أن ينسب إليه اختيار، لا يقال في اللغة: إنه صدقه، فلا يكون إيمانا شرعيا، كذا في شرح المقاصد. وفيه بحث، فإن من حصل له تصديق بلا اختيار إذا التزم العمل بموجبه يكون إيمانا اتفاقا، ولو صدق النبي صلى الله عليه وسلم بالنظر في معجزاته اختيارا، ولم يلتزم عمل بموجبه، بل عانده فهو كافر اتفاقا. فعلم أن المعتبر في الإيمان الشرعي هو اختيار في التزام موجب التصديق لا في نفسه، وهذا هو التسليم الذي اعتبره بعض الفضلاء أمرا زائدا على التصديق فليتأمل) (٣).

والحاصل أن الأشاعرة يشترطون في الإيمان: الإذعان والانقياد والقبول وترك العناد والتكبر، لكنهم يجعلون ذلك نفس (التصديق)، ثم يتكلفون في إيجاد الفرق بين (المعرفة) و (التصديق) ولو قالوا: إن التصديق يجب أن يصحبه إذعان وانقياد وقبول، لسهل الأمر، لكنهم يعلمون أن ذلك مبطل لأصلهم الذي بنوا عليه إخراج العمل من الإيمان، وهو الزعم بأن الإيمان لُغوي، وأن الشرع لم يغير معناه الذي هو التصديق، ولم يتصرف فيه، وأن الإيمان شيء واحد.

ولهذا لما نقل شيخ الإسلام عن بعضهم القول بأنهم: (اختلفوا في إضافة ما لا يدخل في جملة التصديق إليه لصحة الاسم، فمنها ترك قتل الرسول، وترك إيذائه، وترك تعظيم الأصنام، فهذا من التروك. ومن الأفعال: نصرة الرسول، والذب عنه، وقالوا: إن جميعه يضاف إلى التصديق شرعا. وقال آخرون: إنه من الكبائر، لا يخرج المرء بالمخالفة فيه عن الإيمان).


(١) قال الصاوي في حاشيته: (أي كأبي طالب، فإنه كان يشهد له بالصدق من غير إذعان) انتهى من ((حاشية الصاوي على شرح الخريدة)) (ص٧٢).
(٢) ((شرح الخريدة البهية للدردير)) (ص٧٢) وما بعدها. وانظر ما قاله التفتازاني في الفرق بين المعرفة والتصديق في ((شرح العقائد النسفية)) (ص٨٢) وحاصله أن التصديق المعتبر أمر كسبي يثبت باختيار المصدق، بخلاف المعرفة فإنها ربما تحصل بلا كسب كمن وقع بصره على جسم فحصل له معرفة أنه جدار أو حجر.
(٣) ((حاشية السيالكوتي على شرح المواقف)) (٨/ ٣٥٢)، وانظر: ((شرح الخريدة)) لحسين عبد الرحيم مكي (ص٦٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>