للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

علق شيخ الإسلام بقوله: (قلت: وهذان القولان ليسا قول جهم، لكن من قال ذلك فقد اعترف بأنه ليس مجرد تصديق القلب، وليس هو شيئا واحدا، وقال: إن الشرع تصرف فيه. وهذا يهدم أصلهم، ولهذا كان حذاق هؤلاء كجهم والصالحي وأبي الحسن والقاضي أبي بكر على أنه لا يزول عنه اسم الإيمان إلا بزوال العلم من قلبه) (١).

ثم نقل عن أبي المعالي الجويني وأبي القاسم الأنصاري شارح الإرشاد ما يفيد أن الإيمان هو التصديق بالقلب، إلا أن الشرع أوجب ترك العناد، وعليه فكفر اليهود العالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو من هذا الباب، أي كفروا عنادا وبغيا وحسدا.

قال شيخ الإسلام: والحذاق في هذا المذهب كأبي الحسن والقاضي ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون أحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق، والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء وقالوا: هذا مكابرة وسفسطة (٢).

بطلان مذهب من جعل عملَ القلب نفسَ التصديق:

قد تبين مما سبق أن متأخري الأشاعرة أثبتوا عمل القلب، من القبول والانقياد والإذعان، لكنهم جعلوا ذلك نفس التصديق، كما في قول الدردير: (فالإذعان والقبول والتصديق والتسليم عبارات عن شيء واحد)، وسبقت الإشارة إلى أن هذا مذهب أبي الحسين الصالحي، وأن شيخ الإسلام جزم بفساد هذا القول، واعتبره ضلالا بينا، قال: (والمرجئة أخرجوا العمل الظاهر عن الإيمان؛ فمن قصد منهم إخراج أعمال القلوب أيضا، وجعلها هي التصديق فهذا ضلال بيِّن) (٣). وإدخال عمل القلب في التصديق، باطل لأمور كثيرة أظهرها ما يترتب على ذلك من القول بأنَّ من كان كفره من جهة انتفاء عمل القلب، كإبليس وفرعون واليهود العالمين بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فليس في قلبه شيء من التصديق، لأنه إذا كان عملُ القلب هو نفس التصديق، كان انتفاؤه يعني انتفاء التصديق، ويلزم على ذلك أنَّ هؤلاء المذكورين ليسوا مصدقين، وأنه لا يزول اسم الإيمان عن أحد إلا بزوال العلم والتصديق من قلبه. وهذا الذي اعتمده الحذاق في هذا المذهب كأبي الحسن والقاضي أبي بكر، كما سبق.

وأما المتأخرون فقد وقعوا في التناقض الذي أشار إليه شيخ الإسلام، فأثبتوا العلم والتصديق لكثير من المشركين وأهل الكتاب، ونفوا عنهم الإذعان والانقياد، مع قولهم: إن التصديق هو نفس الإذعان والانقياد!

وهؤلاء يلزمهم أن يقولوا: إنَّ الإيمان الواجب في القلب أمران: التصديق، والعمل، وأنه قد يوجد التصديق من غير العمل، لكنَّ هذا يفسد الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم، وهو أن الإيمان مجرد التصديق، وأنه شيء واحد، وأن الشرع لم يتصرف فيه!

وهذا الاضطراب جزاء من أعرض عن نصوص الكتاب والسنة، والتمس الهدى في غيرهما من الآراء الكلامية، والقواعد المنطقية.

وهذا ما سيظهر أيضا من خلال عرض مفهوم الكفر عندهم. الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير - ١/ ٢٥١


(١) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ١٤٥).
(٢) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ١٤٦) وما بعدها.
(٣) ((مجموع الفتاوى)) (٧/ ٥٥٤)، وانظر: (ص٢٠٢) من هذا البحث.

<<  <  ج: ص:  >  >>