للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقول ابن رشد هذا فيه تحرير جيد لموقف مالك من هذه المسألة، ألا أن قوله عنه أنه قال ذلك عند موته فيه نظر ... ، إذ إن الروايات المتقدمة عنه رحمه الله في أن الإيمان يزيد وينقص من طريق غير واحد من أصحابه لا تفيد ذلك وليس فيها تصريح به، سيما رواية ابن نافع المعينة هنا وقد تقدمت معناً ولفظها: (كان مالك يقول الإيمان يزيد وينقص) (١) فليس فيها ما يفيد أن ذلك إنما كان عند موته رحمه الله، ثم إن تعدد الروايات عنه في ذلك من طريق عبدالرزاق ومعمر وابن نافع وغيرهم من أصحابه تفيد أن قوله إن الإيمان يزيد وينقص لم يكن قال به عند موته فقط بل قبل ذلك، فلست أدري على ماذا استند ابن رشد في قوله هذا؟ والذي أراه أنه لا مستند له، فجميع الذين رووه من طريق نافع ممن تقدم ذكرهم في التخريج لم يذكر أحد منهم ما أشار إليه ابن رشد، ثم إن الروايات الأخرى عنه في أن الإيمان يزيد وينقص تدل على عدم صحة هذا كما هو ظاهر مما تقدم، والله أعلم.

وعلى كل فهذا القول أعني قول مالك رحمه الله: (الإيمان يزيد وينقص) هو الأخير من أقواله وهو المشهور عنه عند أصحابه وغيرهم لا الأول، أما قول الزبيدي: (وتوقف مالك عن القول بنقصانه، هذا هو المشهور من مذهبه) (٢). فغير صحيح، إلا إن كان يعني بالشهرة شهرته عند أهل البدع فنعم، فهم يتتبعون ما وافق أهواءهم من النصوص وأقوال أهل العلم ويأخذون به ويعدونه صحيحا مشهورا ويدعون ما سواه.

فالمشهور عن مالك هو القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولهذا لما عدد الإمام أحمد من قال الإيمان يزيد وينقص من أهل العلم عدّ منهم مالكاً رحمه الله مع علمه أنه روي عنه القول بأن الإيمان يزيد مع التوقف في النقصان.

ولما عدد عبدالرزاق رحمه الله القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص عدّ منهم مالكاً رحمه الله، وهكذا صنع أبو عبيد وغيرهم من أهل العلم، وما ذاك إلا لأنه المشهور عن مالك رحمه الله.

ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد أن أشار إلى توقف مالك في النقصان: (والرواية الأخرى عنه، وهو المشهور عند أصحابه كقول سائرهم إنه يزيد وينقص) (٣).

رواية غريبة:

وقد ذكر القاضي عياض في (ترتيب المدارك) رواية غريبة عن مالك في ذلك فقال: (قال زهير بن عباد: قلت لمالك ما قولك في صنفين عندنا بالشام اختلفوا في الإيمان فقالوا: يزيد وينقص؟

قال بئس ما قالوا ... ) إلى آخر سياق هذه الرواية وهو طويل (٤).

وهذا غريب جداً، بل لا يثبت عن مالك رحمه الله لا سيما أن القاضي عياض ذكره مرسلاً هكذا. ولم يذكر من خرجه ولم يذكر له سنداً، فعلى هذا لا يكون صحيحاً، ولا تصح نسبته إليه، كيف وهو مخالف للصحيح الثابت عنه رحمه الله، اللهم إلا أن يكون في الرواية تحريف أو سقط، والله أعلم .. زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبد الرزاق البدر - بتصرف- ص٢٧٧


(١) رواه عبدالله في ((السنة)) (١/ ٣١٧) (٦٣٦) والخلال في ((السنة)) (٣/ ٦٠٨) (١٠٨٢)، وأبو نعيم في ((الحلية)) (٦/ ٣٢٧)، والآجري في ((الشريعة)) (ص: ١١٤) واللالكائي في ((اعتقاد أهل السنة)) (٥/ ٩٥٩) (١٧٤٢)، وابن عبدالبر في ((الانتقاء)) (ص: ٣٦).
(٢) ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٥٦).
(٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٥٠٦).
(٤) ((ترتيب المدارك)) (٢/ ٤٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>