للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال النووي بعد أن ذكر قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص وإنه متى قبل الزيادة كان شكاً وكفراً، قال: (والأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة نيّرة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره .. ) (١).

وقال النووي أيضاً: (والناس يتفاضلون في تصديق القلب على قدر علمهم ومعاينتهم فمن زيادته بالعلم قوله تعالى: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا ومن المعاينة قوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ فجعل له مزية على علم اليقين والله أعلم) (٢).

ونقله عنه الحافظ في (الفتح) ثم قال: (ويؤيده أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل، حتى إنه يكون في بعض الأحيان الإيمان أعظم يقيناً وإخلاصاً وتوكلاً منه في بعضها، وكذلك في التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها) (٣).

وقال شيخ الإسلام: (إن التصديق نفسه يتفاضل كنهه، فليس ما أثنى عليه البرهان بل تشهد له الأعيان، وأميط عنه كل أذى وحسبان، حتى بلغ أعلى درجات الإيقان، كتصديق زعزعته الشبهات، وصدقته الشهوات، ولعب به التقليد، ويضعف لشبه المعاند العنيد، وهذا أمر يجده من نفسه كل منصف رشيد) (٤).

وقال ابن رجب: (والتصديق القائم بالقلوب يتفاضل، وهذا هو الصحيح، وهو أصح الروايتين عن أبي عبدالله أحمد بن حنبل، فإن إيمان الصديقين الذي يتجلى الغيب لقلوبهم حتى يصير كأنه شهادة بحيث لا يقبل التشكيك والارتياب ليس كإيمان غيرهم ممن لا يبلغ هذه الدرجة بحيث لو شكك لدخله الشك ... ) (٥).

لم أقف على نقل للإمام أحمد رأى فيه أن التصديق لا يتفاضل، وإنما الذي نقل عن الإمام فيه روايتان فيما اطلعت عليه هو: (المعرفة القلبية) كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكما سيأتي في الوجه التالي، فعلّ الحافظ ابن رجب قصد بالروايتين عنه في التصديق ما جاء عنه في المعرفة والله أعلم.

وقال الكرخي: (إن نفس التصديق يقبل القوة، وهي التي عبر عنها بالزيادة للفرق المميز بين يقين الأنبياء ويقين آحاد الأمة وكذا من قام عليه دليل واحد ومن قامت عليه أدلة كثيرة، لأن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه وأثبت لقدمه) (٦).

فبهذا البيان والنقول يتضح بما لا مجال للشك فيه أن التصديق نفسه يقبل الزيادة والنقصان، فتأمل هذا الوجه جيدا فقد اشتمل على أوضح رد وأجلى بيان لبطلان قول من قال إن التصديق لا يزيد ولا ينقص، وإن نقصانه يقتضي الشك والكفر ...

الوجه الرابع:


(١) ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (١/ ١٤٨)، ((المسائل المنثورة)) (١٩٤).
(٢) ((شرح البخاري)) (١/ ٢٢٦).
(٣) ((فتح الباري)) (١/ ٤٦).
(٤) ((الفتاوى)) (٦/ ٤٨٠) ((تهذيب السنن)) لابن القيم (٧/ ٥٦).
(٥) ((جامع العلوم والحكم)) (٢٨) بتصرف يسير.
(٦) نقله عنه أبو السعود في تفسيره (٣/ ٤) وصديق حسن خان في كتابه ((فتح البيان)) (٤/ ٦). والنقل بتصرف.

<<  <  ج: ص:  >  >>