للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إن المعرفة القلبية – وهي دون التصديق (١) – يتفاضل الناس فيها، فهي تختلف من حيث الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، ودوام الحضور والغفلة؛ فليست المعرفة المستحضرة الثابتة التي يثبت الله صاحبها كالمجملة التي غفل عنها صاحبها، وإذا حصل له ما يريبه فيها ارتاب ثم رغب إلى الله في كشف الريب.

قال شيخ الإسلام: (وكذلك المعرفة التي في القلوب تقبل التفاضل على الصحيح عند أهل السنة، وفي هذا نزاع، فطائفة من المنتسبين إلى السنة تنكر التفاضل في هذا كله كما يختار ذلك القاضي أبو بكر وابن عقيل وغيرهما، وقد حكي عن أحمد في التفاضل في المعرفة روايتان) (٢).

وقال شيخ الإسلام: (وقد ذكر القاضي أبو يعلى في ذلك عن أحمد روايتين) (٣).

وكلتا الروايتين ثابتتان عن الإمام رحمه الله بسند صحيح، أما الرواية الأولى فقد خرجها الخلال في ((السنة)) من طريق أبي بكر محمد بن علي أن يعقوب بن بختان حدثهم قال: سألت أبا عبدالله عن المعرفة والقول تزيد وتنقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل (٤).

وأما الرواية الثانية فخرجها أيضاً الخلال في ((السنة)) من طريق المروذي قال: قلت لأبي عبدالله في معرفة الله عز وجل في القلب يتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيد؟ قال: نعم (٥) ...

ولا تعارض ... بين هاتين الروايتين عن الإمام، فهو رحمه الله جزم في الرواية الأولى بالإتيان بالمعرفة والقول، وهذا مما لا يجوز لمسلم أن يرتاب فيه إذ إن من شك في إتيانه بالمعرفة والقول يكفر، لكن المعرفة تختلف من شخص لآخر قوةً وضعفاً بحسب قوة الأدلة وكثرة النظر، وهذا ما بينه رحمه الله في الرواية الثانية، حيث بيّن أن الناس يتفاضلون في المعرفة وأنها تزيد، وهذا لا يتنافى مع الجزم بالإتيان بالمعرفة، لأن القدر الواجب من المعرفة يجزم به المسلم، ولا يمكن أن يجزم بأنه بلغ أعلى درجات المعرفة، لأن المعرفة درجات والناس متفاضلون فيها، والله أعلم.

ثم ... وقفت على كلام نحوه للقاضي أبي يعلى في التوفيق بينهما، حيث قال رحمه الله بعد أن أشار إلى هاتين الروايتين: (وعندي أن المسألة ليست على روايتين وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال لا تزيد ولا تنقص يعني به نفس المعرفة، لأن المعرفة هي: معرفة المعلوم على ما هو به، وذلك لا يختلف بحال ... والموضع الذي قال: تزيد وتنقص يعني بالزيادة في معرفة الأدلة، وذلك قد يزيد وينقص، فمنهم من يعرف الشيء من جهة واحدة، ومنهم من يعرفه من جهات كثيرة) (٦).

ثم إن مما يوضح لنا هذا الوجه. أعني التفاضل في المعرفة ويبينه أن معرفة الإنسان بالشيء إن عاينه تختلف عن معرفته به إن لم يعاينه وإن كان جازماً بصدق من أخبره.


(١) لمعرفة الفرق بين المعرفة والتصديق انظر: رسالة الإمام أحمد للجوزجاني ضمن ((السنة)) للخلال، وانظرها وشرح شيخ الإسلام لها في ((الفتاوى)) (٧/ ٣٩٠، وما بعدها)، قال شيخ الإسلام في شرحها (٧/ ٣٩٥): "وأحمد فرق بين المعرفة التي في القلب وبين التصديق الذي في القلب ... ".
(٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٠٨) و (١٠/ ٧٢٢) ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (١٨).
(٣) ((درء التعارض)) (٧/ ٤٥١) قلت: ذكر القاضي أبو يعلى هاتين الروايتين عن الإمام في كتابه ((الروايتين والوجهين)).
(٤) ((السنة)) للخلال (٢/ ٦٧٧).
(٥) ((السنة)) للخلال (٢/ ٦٧٦).
(٦) ((الروايتين والوجهين)) (القرآن ٢٥١/ب).

<<  <  ج: ص:  >  >>