للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الخبر كالمعاينة)) (١) فإن موسى لما أخبره ربه أن قومه عبدوا العجل، لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر، فقد لا يتصور المخبر به في نفسه كما يتصوره إذا عاينه، بل يكون قلبه مشغولاً عن تصور المخبر به، وإن كان مصدقاً به، ومعلوم أنه عند المعاينة يحل له من تصور المخبر به ما لم يكن عند الخبر (٢).

فالزيادة والنقصان في الإيمان شاملة لمعرفة القلوب لتفاضل الناس فيها، من جهة الإجمال والتفصيل، والقوة والضعف، والذكر والغفلة، فمعرفة الله وأسمائه وصفاته، وأنه بكل شيءٍ عليم، وعلى كل شيءٍ قدير، وأنه غفور رحيم، عزيز حكيم، شديد العقاب، إلى غير ذلك من صفاته، كل ذلك داخل في الإيمان، إذ لا يمكن لمسلم أن يقول إنه ليس من الإيمان، ومعلوم أن الناس متفاوتون في معرفتها وغير متماثلين، بل لا يمكن لأحد أن يدعي تماثل الناس في ذلك (٣).

ثم من المعلوم أيضاً أن الناس يتفاضلون في معرفة الملائكة وصفاتهم، ويتفاضلون في معرفة الروح وصفاتها، وفي معرفة الجن وصفاتهم، وفي معرفة الآخرة وما بها من نعيم وعذاب، بل ويتفاضلون في معرفة أبدانهم وصفاتها وصحتها ومرضها وما يتبع ذلك، فإن كانوا متفاضلين في ذلك كله، فتفاضلهم في معرفة الله أعظم وأعظم (٤).

قال شيخ الإسلام: (ولا ريب أن المؤمنين يعرفون ربهم في الدنيا، ويتفاوتون في درجات العرفان، والنبي صلى الله عليه وسلم أعلمنا بالله وقد قال: ((لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (٥) وهذا يتعلق بمعرفة زيادة المعرفة ونقصها المتعلقة بمسألة زيادة الإيمان ونقصه) (٦).

وقال ابن قاضي الجبل في أصوله: (الأصح التفاوت، فإنا نجد بالضرورة الفرق بين كون الواحد نصف الاثنين، وبين ما علمناه من جهة التواتر مع كون اليقين حاصل فيهما) (٧).

قال السبكي في رسالة له ألفها في الاستثناء نقل أكثرها الزبيدي في (الإتحاف): (والمعرفة يتفاوت الناس فيها تفاوتاً كثيراً .. وأعلى الخلق معرفة النبي صلى الله عليه وسلم ثم الأنبياء والملائكة على مراتبهم وأدنى المراتب الواجب الذي لا بد منه في النجاة من النار وفي عصمة الدم، وبين ذلك وسائط كثيرة منها واجب ومنها ما ليس بواجب وكل ذلك داخل في اسم الإيمان) (٨).

وبهذا يتبين أن المعرفة القلبية تقبل الزيادة والنقصان وبالله التوفيق.

فائدة جليلة: تنازع الناس في المعرفة القلبية هل حصلت بالشرع أو بالعقل؟


(١) رواه أحمد (١/ ٢٧١) (٢٤٤٧)، وابن حبان (١٤/ ٩٦) (٦٢١٣)، والحاكم (٢/ ٣٥١). من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الزركشي في ((اللآلئ المنثورة)) (٧٨): إسناده صحيح، وحسنه ابن حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (٢/ ١٣٨)، وقال محمد الغزي في ((إتقان ما يحسن)) (٢/ ٤٧٥): إسناده جيد، وقال الزرقاني في ((مختصر المقاصد)) (٨٤٦)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (٥٣٧٤): صحيح.
(٢) ((الفتاوى)) (٧/ ٢٤٣).
(٣) ((الفتاوى)) (٧/ ٤١٤).
(٤) ((الفتاوى)) (٧/ ٥٦٩).
(٥) جزء من حديث رواه مسلم (١١١٨). من حديث عائشة رضي الله عنها.
(٦) ((الفتاوى)) (٦/ ٤٧٩).
(٧) نقله عنه ابن النجار في شرح ((الكوكب المنير)) (١٨).
(٨) ((إتحاف السادة المتقين)) (٢/ ٢٨٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>