وهذا يحصل لكثير من الناس ولا سيما أهل العلوم والعبادات، فإنه يقوم بقلوبهم من التفصيل أمور كثيرة تخالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم لا يعرفون أنها تخالف، فإذا عرفوا رجعوا.
وكل من ابتدع في الدين قولاً أخطأ فيه، أو عمل عملا أخطأ فيه، وهو مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم مصدق بما جاء به ثم عرف ما قاله وآمن به وترك ما كان عليه من خطأ، فهو من هذا الباب، وكل مبتدع قصده متابعة الرسول فهو من هذا الباب، فمن علم ما جاء به الرسول وعمل به، أكمل ممن أخطأ ذلك، ومن علم الصواب بعد الخطأ وعمل به أكمل ممن لم يكن كذلك.
فهذا أحد أوجه زيادة الإيمان ونقصانه، وهو وإن أشبه الوجه الأول وهو المجمل والمفصل من جهة أنه تجدد عند هذا وهذا شيء من معارف الإيمان وعلومه مما لم يكن قبل عندهما، إلا أنهما مختلفان من جهة أن صاحب الوجه الأول كان قلبه خالياً من تكذيب وتصديق لشيءٍ من التفاصيل وعن معرفة وإنكار لشيء من ذلك، أما صاحب هذا الوجه فهو مكذب بشيء من التفاصيل منكر لها لجهله أنها من الإيمان وبهذا يظهر الفرق بين الوجهين.
الوجه التاسع:
إن التفاضل يحصل من هذه الأمور من جهة الأسباب المقتضية لها، فمن كان مستنداً في تصديقه ومحبته على أدلة توجب اليقين ولا تدع مجالاً للشبه العارضة، بل تدحضها وتبين فسادها، فهو ليس بمنزلة من كان تصديقه لأسباب دون ذلك، فإن تصديقه قد يتزعزع ويداخله الشك والريب لضعف أسباب التصديق عنده وكذلك من جعل له علوماً ضرورية قوي تمكنها في نفسه بحيث لا يمكنه دفعها عن نفسه، لم يكن بمنزلة من تعارضه الشبه ويريد إزالتها بالنظر والبحث وقد لا يستطيع.
ولا يستريب عاقل أن العلم بكثرة الأدلة وقوتها، وبفساد الشبه المعارضة لذلك وبطلانها ليس كالعلم الذي هو مستند على دليل واحد أو دليلين من غير معرفة بالشبه المعارضة له، وفسادها.
فالشيء كلما قويت أسبابه، وتعددت وانقطعت موانعه واضمحلت كان أوجب لكماله وقوته وتمامه، والعكس بالعكس.
فهذه الأوجه التسعة تبين تفاضل الناس فيما يقوم بالقلب واللسان والجوارح، وبالتأمل قد يظهر غيرها.
ثم إن هذه الأوجه التسعة تتلخص في وجهين اثنين هما:
١ - إن الإيمان يتفاضل من جهة أمر الرب.
٢ - إن الإيمان يتفاضل من جهة فعل العبد.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وذلك أن أصل أهل السنة أن الإيمان يتفاضل من وجهين: من جهة أمر الرب، ومن جهة فعل العبد.
أما الأول فإنه ليس الإيمان الذي أمر به شخص من المؤمنين هو الإيمان الذي أمر به كل شخص، فإن المسلمين في أول الأمر كانوا مأمورين بمقدار من الإيمان، ثم بعد ذلك أمروا بغير ذلك، وأمروا بترك ما كانوا مأمورين به كالقبلة، فكان الإيمان في أول الأمر الإيمان بوجوب استقبال الكعبة، فقد تنوع الإيمان في الشريعة الواحدة. وأيضاً فمن وجب عليه الحج والزكاة أو الجهاد يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره إلا مجملا، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل، وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان.
والنوع الثاني: هو تفاضل الناس في الإتيان به مع استهوائهم في الواجب، وهذا الذي يظن أنه محل النزاع وكلاهما محل النزاع.
وهذا أيضاً يتفاضلون فيه فليس إيمان السارق والزاني والشارب كإيمان غيرهم، ولا إيمان من أدى الواجبات كإيمان من أخل ببعضها، كما أنه ليس دين هذا وبره وتقواه مثل دين هذا وبره وتقواه، بل هذا أفضل ديناً وبراً وتقوى فهو كذلك أفضل إيماناً .. ) (١) زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه لعبدالرزاق البدر- بتصرف- ص١٣٦
(١) ((الفتاوى)) (١٣/ ٥١، ١٨/ ٢٧٧).