للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومعنى قوله بجهالة في الآيات أي جهالة من فاعلها بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه وجهله منه لنظر الله ومراقبته له، وجهل منه بما تأول منه من نقص الإيمان أو عدمه، فكل عاص لله فهو جاهل بهذا الاعتبار، وإن كان عالما بالتحريم، بل العلم بالتحريم شرط لكونها معصية معاقباً عليها (١).

وبنحو هذا التفسير للآية قال جماعة من السلف، وروى جملة منها الطبري في تفسيره:

فروى عن أبي العالية أنه كان يحدث أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا يقولون: (كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة).

وعن قتادة قال: (اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عصي الله به فهو جهالة، عمدا كان أو غيره).

وعن مجاهد قال: (كل من عصى ربه فهو جاهل، حتى ينزع عن معصيته) وقال أيضاً: (كل من عمل بمعصية الله فذاك منه بجهل حتى يرجع عنه).

وقال السدي: (ما دام يعصي الله فهو جاهل).

وقال ابن زيد: (كل امرئ عمل شيئاً من معاصي الله فهو جاهل أبداً حتى ينزع عنها) (٢).

قال شيخ الإسلام: (وسبب ذلك أن العلم الحقيقي الراسخ في القلب يمتنع أن يصدر معه ما يخالفه من قول أو فعل فمتى صدر خلافه فلا بد من غفلة القلب عنه أو ضعف القلب عن مقاومة ما يعارضه، وتلك أحوال تناقض حقيقة العلم فيصير جهلاً بهذا الاعتبار.) (٣).

فالجهل بالله داء خطير، ومرض فتاك، يجر على صاحبه من الويلات والعواقب الوخيمة الشيء الكثير، فمن تمكن منه هذا الداء وسيطر عليه، فلا تسأل عن هلكته، فهو هاو في ظلمة المعاصي والذنوب، متنكب عن صراط الله المستقيم، مستسلم لدواعي الشبهات والشهوات، إلا أن تتداركه رحمة الله بغياث القلوب ونور الأبصار ومفتاح الخير العلم النافع المثمر للعمل الصالح، إذ ليس هناك دواء لهذا الداء غير العلم، ولا ينفك هذا الداء عن صاحبه إلا بأن يعلمه الله ما ينفعه، ويلهمه رشده، فمن أراد الله به الخير علمه ما ينفعه، وفقهه في دينه وبصره بما فيه فلاحه وسعادته، فخرج به عن الجهل ومتى لم يرد به خيرا أبقاه على جهله، والله المسؤول أن يغيث قلوبنا بالعلم والإيمان، ويعيذنا من الجهل والعدوان.

ثانياً – الغفلة والإعراض والنسيان:

فإن هذه الأمور الثلاثة سبب عظيم من أسباب نقص الإيمان، فمن اعترته الغفلة، وشغله النسيان، وحصل منه الإعراض، نقص إيمانه وضعف بحسب توافر هذه الأمور الثلاثة فيه أو بعضها، وأوجبت له مرض القلب أو موته باستيلاء الشهوات والشبهات عليه.

أما الغفلة فقد ذمها الله في كتابه وأخبر أنها خلق ذميم من أخلاق الكافرين والمنافقين، وحذر منها سبحانه أشد التحذير:

قال تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف: ١٧٩].

وقال تعالى: إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ [يونس: ٧].

وقال تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس: ٩٢].


(١) ((تفسير ابن سعدي)) (٢/ ٣٩).
(٢) انظر هذه الآثار: في ((تفسير الطبري)) (٣/ ٢٩٩، ٥/ ٢٠٩) ((تفسير البغوي)) (١/ ٤٠٧) ((الفتاوى)) لابن تيمية (٧/ ٢٢) ((تفسير ابن كثير)) (١/ ٤٦٣).
(٣) ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (ص: ٧٨).

<<  <  ج: ص:  >  >>