للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا كله إشارة إلى عمل القلب وتحققه بمعنى الشهادتين, فتحققه بمعنى شهادة أن لا إله إلا الله أن لا يأله قلبه غير الله حبا ورجاء وخوفا وطمعا وتوكلا واستعانة وخضوعا وإنابة وطلبا وتحققه بشهادة أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يعبد بغير ما شرعه على لسان نبيه – محمد - صلى الله عليه وسلم ... وتحقيق هذا المعنى وإيضاحه أن قول العبد (لا إله إلا الله) يقتضي أن لا إله غير الله, والإله الذي يطاع ولا يعصى هيبة وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له, ولا يصلح ذلك كله لغير الله عز وجل, فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قوله لا إله إلا الله ونقصاً في توحيده, وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من المعاصي التي منشأها من طاعة غير الله عز وجل أو خوفه أو رجائه أو التوكل عليه أو العمل, كما ورد إطلاق الكفر والشرك على الربا وعلى الحلف بغير الله عز وجل وعلى التوكل على غير الله والاعتماد عليه وعلى من سوى بين الله وبين المخلوق في المشيئة مثل أن يقول ما شاء الله وشاء فلان, وكذا قوله: مالي إلا الله وأنت, وكذلك ما يقدح في التوحيد وتفرد الله بالنفع والضر كالطيرة والرقى المكروهة وإتيان الكهان وتصديقهم بما يقولون وكذلك اتباع هوى النفس فيما نهى الله عنه قادح في تمام التوحيد وكماله, ولهذا أطلق الشرع على كثير من الذنوب التي منشأها من هوى النفس أنها كفر وشرك كقتال المسلم ومن أتى حائضا أو امرأة في دبرها ومن شرب الخمر في المرة الرابعة وإن كان ذلك لا يخرجه من الملة بالكلية, ولهذا قال السلف: كفر دون كفر, وشرك دون شرك, وقد ورد إطلاق الإله على الهوى المتبع قال تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الفرقان:٤٣] قال الحسن رحمه الله تعالى: هو الذي لا يهوى شيئا إلا ركبه, وقال قتادة: هو الذي كلما هوى شيئا ركبه وكلما اشتهى شيئا أتاه لا يحجزه عن ذلك ورع ... ويشهد لهذا الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ((تعس عبد الدينار, تعس عبد الدرهم, تعس عبد القطيفة, تعس عبد الخميصة, تعس وانتكس, وإذا شيك فلا انتقش)) (١) , فدل هذا على أن من أحب شيئا وأطاعه وكان من غاية قصده ومطلوبه, ووالى لأجله وعادى لأجله, فهو عبده, وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه ويدل عليه أيضا أن الله تعالى سمى طاعة الشيطان في معصيته عبادة للشيطان كما قال تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ [يس:٦٠] وقال تعالى حاكيا عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام: يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا [مريم:٤٤] فمن لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته فإنه يعبد الشيطان بطاعته, ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن وهم الذين قال فيهم: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:٤٢] فهم الذين حققوا قول لا إله إلا الله وأخلصوا في قولها وصدقوا قولهم بفعلهم فلم يلتفتوا إلى غير الله محبة ورجاء وخشية وطاعة وتوكلا, وهم الذين صدقوا في قول لا إله إلا الله, وهم عباد الله حقا فأما من قال لا إله إلا الله بلسانه ثم أطاع الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب قوله فعله, ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان والهوى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ [القصص:٥٠] وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [ص:٢٦] ثم قال رحمه الله تعالى: فيا هذا كن عبدا لله لا عبدا للهوى, فإن الهوى يهوي بصاحبه في النار أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:٣٩] , ((تعس عبد الدرهم, تعس عبد الدينار)) والله لا ينجو غدا من عذاب الله إلا من حقق عبودية الله وحده ولم يلتفت إلى شيء من الأغيار, من علم أن إلهه ومعبوده فرد فليفرده بالعبودية ولا يشرك بعبادة ربه أحدا انتهى كلامه رحمه الله تعالى معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول لحافظ بن أحمد الحكمي – ص٥٢٨


(١) رواه البخاري (٢٨٨٧).

<<  <  ج: ص:  >  >>